شخصيات من بلدتي القوش
رجل الأعمال فرج إيسف بولا اسمرو (1947 القوش – 2025 أوسلو)
عماد رمو
في حياة كل مغترب عراقي قصة واحدة، أما في حياة شخصية اليوم، رجل الأعمال ابن بلدتي القوش، فهناك قصص كثيرة. ومن أجل أن أتمكن من جمع وربط جميع هذه القصص في رواية واحدة، عليَّ التعمق كثيرًا في خصائص هذه الشخصية وارتباطها المباشر مع الشخصيات الأخرى التي رسمت الهوية الاجتماعية والثقافية لبلدتي العزيزة القوش.
ورغم أني لست من جيل هذه الشخصية، فهو يكبرني بأربعة عشر عامًا، إلا أنني في العقود الثلاثة الأخيرة كنت قريبًا منه جدًا. وللقراء الأعزاء الذين يقرأون للمرة الأولى تفاصيل حياة ومسيرة هذه الشخصية، فمن المهم أن أقول إن المرحوم فرج اسمرو هو خال والدي داويذ كبّو، حيث إن المرحومة جدتي حبي اسمرو هي الأخت الكبرى لفرج، لذا كانت لنا علاقات قوية جدًا بحكم موقع هذه الشخصية الفريدة في حياتنا نحن أحفادها، إذ كانت تعتز وتفتخر به وبأخيه الأكبر، مهندس النفط المعروف عبد (أودا) إيسف بولا (بولص) اسمرو.
وبصراحة، أكتب عن هذه الشخصية العراقية التي رحلت قبل أسابيع في أوسلو، عاصمة النرويج، وبعد أن هدأت العاصفة التي ضربتنا برحيله، وجدت أن الوقت قد حان للكتابة عنه بشيء من التفصيل. وفي كل الأحوال، وأثناء كتابتي هذا المقال، سأبتعد قليلًا عن عاطفة القرابة بيننا لكي يكون المقال أكثر موضوعية وواقعية، من خلال سرد جميع المراحل التي أثرت في رسم هويته، والتي هي ملخص للشخصية الألقوشية المثابرة، التي لم تتمكن أمواج البحر الهائجة من تغيير مسار سفينته الإنسانية، حيث ظل طوال حياته، التي استمرت 77 عامًا، يتكلم لغة الآباء والأجداد، ويتحدث ويتذكر تاريخ طفولته وشبابه الذي كان يعتز به دائمًا.
أنا أمام شخصية ذات ملامح كثيرة وقوية، سأقوم بالكتابة عن أبرزها. ومع ذلك، فإن كل من التقى بهذه الشخصية هنا في الغرب، سيجد كيف أن الشرق ظل ملهمًا كبيرًا لرجل الأعمال العراقي في النرويج، فرج اسمرو.
هناك عشرات المحطات التاريخية المهمة في حياة هذه الشخصية. فمنذ طفولته، ارتبط كثيرًا بمحطات عائلته اسمرو وبلدته القوش وبلده العراق، ومن ثم تسلسل المحطات إلى أن استقر في النرويج وعاصمتها أوسلو. ولكن المحطة الأولى الذهبية في حياته كانت ولادته في كنف عائلة موقرة معروفة في القوش، هي عائلة اسمرو، ووالده المرحوم الخواجة إيسف بولا اسمرو، كان أحد وجهاء القوش الذين تركوا أثرًا كبيرًا في رسم تاريخ مرحلة مهمة جدًا في بناء مركز وأهمية القوش بين الحرب العالمية الأولى والثانية، وتلك الاضطرابات السياسية المحلية والدولية التي أثرت كثيرًا في مسيرة القوش.
أما والده يوسف بولا اسمرو (1891-1954)، فله صفحة حافلة بالمواقف الحكيمة والقوية والشجاعة، التي أظهرت حسن تدبيره وصبره أثناء الشدائد. ولكن عندما كانت الأمور تصل إلى مرحلتها الحرجة، كان لا يتوانى ولا يلوي على العواقب والمخاطر. لقد كان سياسيًا محنكًا وشخصية مطاعة بين أبناء بلدته القوش. في حين أن الكثير من رؤساء القوش قبله كانوا يضعون المصلحة الشخصية والمكاسب قبل مصلحة القوش، نراه هو، وفي جميع مواقفه، يضع مصلحة القوش فوق مصلحته الشخصية. ومن مواقفه الجريئة في عام 1933م، عدم تسليمه ضيوفه اللاجئين الآشوريين، الذين نزحوا إلى القوش بسبب الأحداث المأساوية التي لحقت بهم، حيث قال حينها جملته الشهيرة: “إما أن نعيش معًا أو نموت معًا.”
ومن قصص الحكمة والجرأة والقوة التي حكاها لي والدي في إحدى رواياته عن جده إيسف بولا اسمرو، والتي اشتهرت بحادثة ذهب اليهوديات، ما يلي:
“كان اليهود، قبل أن يخرجوا من العراق، يحجون كل سنة إلى مزار النبي ناحوم في القوش، وكانوا يقيمون أسبوعًا أو أكثر في القوش، ويتجمعون قرب “قشلا أتيقا”، حيث كانوا يرقصون ويشربون ويدبكون، وخاصة في العصاري، وكان شباب القوش يدبكون معهم ويرقصون مع الشباب والشابات.
وفي إحدى السنين، وبينما كان شباب القوش يرقصون مع المحتفلين اليهود، سُرقت بعض قطع الذهب الخاصة بنساء اليهود أثناء الدبك والرقص، وطبعا اختفى هؤلاء الشباب بغنائمهم من الذهب. فحدثت مشادات كلامية بين الطرفين، وصعد حاخام اليهود إلى مركز الشرطة وقدم بلاغًا، وجلب معه بعض أفراد الشرطة للبحث عن الذهب المسروق وإلقاء القبض على شباب القوش بالقوة.
فعلم رئيس القوش، الخواجة إيسف بولا اسمرو، بالأمر، وأرسل في طلب الحاخام اليهودي، فجاءه إلى مجلسه، فقال له:
“هل تريد أن نحل المشكلة بالتفاهم، فستكون أنت الرابح، أم تريد أن نحلها بالقوة، فستكون أنت الخاسر؟ أنا بإمكاني أن أجمع لك الذهب بأسرع ما يمكن، ومن دون أن تتدخل الشرطة في ذلك.”
فاندهش الحاخام من كلام رئيس القوش ووافق فورًا. وما كان من رئيس القوش إيسف بولا اسمرو إلا أن أمر الدلّال بإبلاغ شباب المدينة ممن لديهم ذهب اليهوديات بتسليمه له. فامتلأت سلة (قلثة) بذلك الذهب، وأعطاه لحاخام اليهود دون نقصان، حيث كانت كلمة رئيس البلدة مسموعة عند الجميع.”
في كنف هذه العائلة وُلِد فرج اسمرو عام 1947م في القوش، وكان هو أصغر إخوته وأخواته، حيث كان تسلسلهم كما يلي: المرحومة حبي، المرحومة مكو، شكري، المهندس عبد (أودا)، والمرحوم فرج، الذي كان أصغرهم جميعًا.
لكن فرج لا يتذكر كثيرًا عن والده، إلا بعض الأمور البسيطة، وكان آخرها عندما مرض والده ونُقل إلى الموصل عام 1953م، حيث لم يمهله المرض طويلًا، فتوفي ونُقلت جثمانه إلى القوش، التي استقبلته بموكب طويل، حيث وُوري الثرى في مقبرتها. كان فرج متأثرًا جدًا بمواقف والده الشجاعة، وقبل عشرات السنوات طلب مني أن أصمم له ضريحًا يليق بمكانته واسمه اللامع في القوش.
أما الشخصية الثانية التي ارتبطت بها حياة فرج، فهي شخصية أخيه، مهندس النفط القدير عبد (أودا) إيسف اسمرو. ولأن أودا كان يكبر فرج بسبع سنوات، فقد سبقه كثيرًا، وعندما التحق أودا بالدراسة الإعدادية في الموصل عام 1954م، كان قد سبقه بسنة ابن أخته، المعلم داويد كبّو رمو، فأصبحت مسيرتهم العلمية مرتبطة بحياتهم الاجتماعية آنذاك في الموصل. وبعد سنة من ذلك، انتقلت والدة أودا، المرحومة ريجو خوشو، مع فرج للالتحاق بداويذ رمو وأودا اسمرو.
ولهذا، نحن أولاد داويذ كبّو رمو، ارتبطنا منذ الصغر بعلاقة قرابة قوية مع أودا وفرج، لا تقل عن علاقتنا بعمنا ياقو رمو، الذي كان صديق فرج منذ طفولته، حيث عاش جزءًا منها في محلة سينا، عند بيت أخته حبي.
ولا بد أن أشير إلى الذكاء الكبير الذي تميز به أودا اسمرو، حيث كان من العشرة الأوائل في دورته عام 1958م في القسم العلمي، والثاني على لواء الموصل، حيث كان رياض الدبوني الأول وهو الثاني. وكانت وزارة النفط ترسل بعثات سنويًا لكل من كان معدله أكثر من 75%. وكان أودا هو الطالب الثالث من القوش الذين فازوا بالبعثات الدراسية، حيث سبقه جورج أبونا، ثم مهندس الكهرباء جلال إلياس بتي بولا (خالي).
وعندما سافر أودا إلى إنجلترا لدراسة الجيولوجيا عام 1958م، عاد فرج مع والدته مرة أخرى إلى بلدته القوش، حيث أكمل دراسته الابتدائية وتفوق على جميع طلبة دورته، ولا تزال صورته موجودة حتى الآن في لوحة الشرف لمدرسة العزة الابتدائية (الثانية) لعام 1958م. ولأنني تخرجت من المدرسة نفسها، كنت أمر يوميًا من تحت لوحة الشرف التي كانت معلقة في مدخل المدرسة، وكل من يمر عبر هذا المدخل كان لا بد له من النظر إليها والاستلهام منها. كنت أعتز حقًا به، وبمكانته العلمية، وذكائه النادر، وأخلاقه الحميدة.
ثم التحق بمتوسطة القوش، ودرس فيها حتى عام 1961م، حيث تبين أنه يعاني من مشكلات صحية في القلب، فسافرت العائلة إلى بغداد طلبًا للعلاج والدراسة.
خلال هذه الفترة، لم يكن فرج وحيدًا مع أمه، إذ إن أعمامه، حبيب اسمرو وساكي اسمرو وعائلتيهما، اهتموا به كثيرًا لتعويض الرعاية والعناية الأخوية التي فقدها بسفر أودا إلى إنجلترا. ومع ذلك، ظلت علاقة فرج بأودا قوية، من خلال الرسائل المتبادلة بينهما.
وتطلبت صحة فرج القلبية أن يترك الدراسة لمدة سنة، حيث خاف عليه الأطباء كثيرًا، لكنه، بقوة شخصيته وتفاؤله، تمكن من تطبيب نفسه بنفسه. ثم عاد إلى الدراسة المكثفة، وتفوق مرة أخرى عام 1966م، كما تفوق قبله أخوه، وحصل مجددًا على بعثة من وزارة النفط لدراسة المحاسبة القانونية في إنجلترا، وكان عمره آنذاك 19 عامًا. وكانت بعثات وزارة النفط من أرقى البعثات، تليها بعثات دراسة الطب والعلوم الأخرى لمن كانت معدلاتهم أقل من 75%.
وهكذا، لم يذكر لنا تاريخ القوش أن هناك عائلة أخرى حصل اثنان من أبنائها على بعثات وزارة النفط، سوى عائلة الخواجة إيسف بولا اسمرو.
طبعًا، هناك طلاب آخرون من القوش درسوا في الخارج وحصلوا أيضًا على بعثات، ومنهم الدكتور سعيد أسطيفانا والمهندس سالم رزوقي، اللذان تشرفت بمحاورتهما، ونشرت الكثير من تفاصيل الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية لتلك الفترة.
ورغم أن بلدة القوش صغيرة من حيث عدد سكانها، إلا أن إمكانياتها البشرية، وما كانت تمتلكه بعض العوائل النخبوية من ثروات، مكّنت أبناءها من التفوق علميًا ووظيفيًا.
وقبل أن أنتقل إلى المرحلة التالية من حياة فقيدنا فرج اسمرو، ولكي يكون للتاريخ صوت للنساء أيضًا، أود الإشارة إلى أن جميع أخوات فرج التحقن بمدرسة الراهبات الابتدائية، ودرسن فيها حتى الصف الرابع، وتمتعن بثقافة جيدة مكنتهن من القراءة، خاصة باللغة السريانية.
وكانت المرحومة حبي، الأخت الكبرى لفرج، من النساء الرائدات في الأخوية الكنسية، حيث قامت بطباعة الكثير من كتب الصلوات لأخويتها، وساهمت في رعاية النشاط النسوي في القوش. ولاحقًا، كان لها دور في إنشاء كنيسة في الحلة، إلى جانب مساهماتها في الكنائس في بغداد، حيث كانت تتقن العديد من الصلوات لجميع مواسم وأعياد الكنيسة.
لقد شهد العقدان الخامس والسادس من القرن الماضي تحولات سياسية كثيرة جدًا في العراق. وهذان العقدان هما من أكثر العقود التي تغيّرت فيها الحكومات: الهاشمية، القاسمية، العارفية، ومن ثم العقود البعثية التي رسمت تاريخ العراق الدموي.
في السنوات الأولى لدراسته في الخارج، كان فرج يأتي في عطلة الصيف لزيارة أهله وبلدته القوش، فحبه لهم لم يفارقه أبدًا رغم صعوبة ومشقة ذلك. فقد زار العراق ثلاث مرات، وكانت المرة الأخيرة في عام 1969م، حيث كان عليه دفع البدل النقدي بدلًا من تأدية الخدمة العسكرية. وقد عانى الأمرَّين في مراجعة الدوائر العسكرية والمدنية من أجل إكمال هذه المعاملة، مما أدى إلى تأخيره في الدراسة وكان له تأثير كبير عليه، حيث قرر حينها عدم الرجوع مرة أخرى إلى الوطن ما دام البعث في السلطة. وهذا ما حدث بالضبط، إذ لم يرجع إلى الوطن إلا بعد انتهاء حكم حزب البعث القومي.
وبعد عشر سنوات في إنجلترا، انتقل فرج إلى طرابلس في ليبيا، حيث حصل على منصب مرموق في شركة (Saba & Company International)، وكان يقوم بفحص الحسابات الضريبية لشركات النفط العالمية نيابة عن الدولة الليبية. لكن بعد سنوات قليلة، فسخت الدولة الليبية العقد المبرم مع تلك الشركة، وتم إغلاق المكتب الذي كان يعمل فيه فرج في طرابلس. ثم أمضى فترات قصيرة بين بيروت وأثينا، حيث عمل في الشركة نفسها، قبل أن يقنعه أحد زملائه بالعودة إلى ليبيا مرة أخرى.
وفي عام 1980، اندلعت الحرب بين إيران والعراق. ولأن ليبيا وقفت إلى جانب إيران، تم إغلاق السفارة العراقية في طرابلس. ولسوء الحظ، كان جواز سفر فرج موجودًا في السفارة حينها لغرض التجديد، ففقد جوازه، ووجد نفسه فجأة بلا هوية شخصية. وهذا ما تفعله الدول السيئة مع أبنائها، حيث كان بإمكانهم تكليف موظف ليبي بإعادة الجوازات إلى أصحابها، لكن عندما تعامل الحكومات أبناءها بهذه القسوة، فكيف يمكن للمرء أن ينتمي إليها؟
وبعد أن بنى فرج مسيرة مهنية ناجحة في مجال المحاسبة القانونية، تأثر كثيرًا بهذا الأمر، جسديًا ونفسيًا. ولم تنجح جميع محاولات أخيه لاستخراج جواز سفر له من السفارة العراقية في لندن، حيث اشترطت السفارة حضوره شخصيًا! ولم يكن أمامه خيار سوى مغادرة ليبيا إلى النرويج عن طريق الزواج من فتاة نرويجية (كونهل)، كانت زميلة له في الدراسة. وهكذا، اختار مغادرة ليبيا والانتقال إلى النرويج في فبراير/شباط 1981، حيث تزوج في نهاية المطاف وأنجب طفلين: فريدريك (1985) وكريستينا (1990).
وقبل أن يسافر فرج للدراسة في إنجلترا، كان عليه الحصول على كفيل، وكان مبلغ الكفالة مرتفعًا جدًا، حيث بلغ حوالي 6000 دينار (وهو مبلغ كان يكفي في عام 1966م لشراء منزل كبير في أي منطقة معتبرة في بغداد). وقد قام ابن أخته، المعلم داويذ كبّو رمو، بكفالته. وعندما تبين أن فرج لن يعود إلى الوطن، اضطر إلى تحويل مبلغ الكفالة إلى أخيه أودا، ليتولى دفعه إلى وزارة النفط.
وفي أوسلو، قرر فرج ترك مهنته كمدقق حسابات، وفكر لفترة من الوقت في الدخول إلى مجال العمل في الغذاء. وفي إحدى رحلاته إلى كوبنهاغن، بينما كان يتجول في شارع للمشاة، التقطت أنفه رائحة مألوفة. كانت تلك الرائحة تنبعث من مطعم كباب، فأعادته إلى ذكريات “كباب الأم”. وهنا جاءته الفكرة! في إنجلترا يوجد الكباب، وكذلك في السويد والدنمارك، فلماذا لا يكون في النرويج أيضًا؟
في عام 1983، أسس فرج شركة (Aramso)، وهو اسم مركب مشتق من الآرامية واسمرو، حيث افتتح أول مطعم للوجبات السريعة في أشهر ساحة في مركز أوسلو. وكان أول مطعم للوجبات السريعة في النرويج يبيع الكباب المصنوع من اللحم المفروم. وسرعان ما اكتسب زبائن دائمين، وعندما باع فرج الكباب في معرض للهواة، ارتفعت المبيعات بشكل ملحوظ بسبب انتشار سمعة المطعم بين الحاضرين.
ومع ذلك، رأى فرج أن هناك إمكانيات تجارية أكبر، وفي عام 1986 أغلق مطعم الوجبات السريعة وأصبح تاجر كباب بالجملة في النرويج. ومنذ ذلك الحين، ظلت (Aramso Kebab – The Original) علامة تجارية معترفًا بها في مجال صناعة الأغذية، ومعروفة باستخدام المواد الخام عالية الجودة.
لعدة سنوات، تم إنتاج الكباب من قبل شركة (Kjøttsentralen) النرويجية، وفي السنوات الأخيرة، حتى يومنا هذا، يتم إنتاج الكباب من قبل شركة (Kuraas). وباعتباره رائدًا في صناعة الأغذية النرويجية، أطلقت الصحافة المحلية في نهاية الثمانينيات على فرج لقب “ملك الكباب“. وعلى مر السنين، كتبت العديد من وسائل الإعلام الكبرى، مثل: NRK وVG وFinansavisen، عن كيفية تغيير فرج لثقافة الطعام في النرويج.
إلى جانب أنشطته التجارية، التزم فرج بالدفاع عن حقوق الأقليات المسيحية، وخاصة في العراق. كان مؤسسًا لرسالة مار يوسف الكلدانية في النرويج، وعمل على مساعدة اللاجئين المسيحيين من العراق. كما قام، بالتعاون مع آخرين، بتأسيس نادي بابل الكلداني، وساعد في تنظيم العديد من اللقاءات الاجتماعية والحفلات والرحلات.
كان فرج يحب السفر وتجربة الأشياء الجديدة وتناول الطعام الجيد. وفي عام 1997، تزوج من أنجيلا حبيب تومي، وأنجبا طفلين معًا: تيا (1999) وبول (2005)، وتمكن فرج وأنجيلا من الاحتفال بالذكرى السابعة والعشرين لزواجهما.
كان فرج فخورًا جدًا بأبنائه الأربعة، كما أصبح جدا لأحفاده: أوسكار (2020)، ويوهانس (2023)، وأوتو (2023). وكان فخورًا بكونه ألقوشيًا، كلدانيًا، وكاثوليكيًا. وفي الوقت نفسه، طور شعورًا قويًا بالانتماء إلى النرويج، وكان ممتنًا للفرص التي أتيحت له هناك.
ويتذكره الأهل والأصدقاء كرجل قوي، إيجابي، ذكي، مرح، فخور، وشامل، أظهر الحب في كل كلماته وأفعاله.
وقد توفي فرج اسمرو في إحدى مستشفيات أوسلو في 25-1-2025، ووُري جثمانه الثرى يوم 7-2-2025 بحضور مهيب لأكثر من 300 مشيّع من جميع طبقات المجتمع النرويجي. وقد أقام القداس أربعة كهنة بمشاركة مجموعة من الشمامسة، وأُلقيت كلمات عديدة في القاعة الكبيرة التي اجتمع فيها المشيّعون بعد انتهاء مراسم الدفن وصلاة الجنازة. وكان هذا التشييع الكبير بمثابة تكريم أبدي له ولعائلته وأصدقائه ومحبيه.
لقد ظل فرج، حتى الساعات الأخيرة من حياته، مؤمنًا بقدَره، شاكراً للجميع ما قدّموه له من حب ورعاية وحنان واهتمام، وخاصة زوجته المنكوبة، التي لم يكن لها فرج مجرد زوج وأب لأبنائها، بل كان أيضًا صديقًا لها في الغربة. كما كان لكل من وصل إلى النرويج من أقربائه دور كبير في استقباله، والاهتمام به، وإرشاده إلى الطريق الصحيح للإقامة في النرويج.
وفي كل مرة كنت أزور فيها النرويج، سواء بطلبه أو دون ذلك، كنت أقضي معه أوقاتًا سعيدة في زياراتنا إلى الأماكن الساحرة في أوسلو، وخاصة عمارتها الحديثة المدهشة. وبعد كل زيارة، كنت أكتب تقريرًا مفصلًا عنها لتوثيقها وعدم نسيانها. وقبل سنتين، زرته للمرة الأخيرة، وعلى ضوء تقرير تلك الرحلة كتب مداخلة صغيرة، لكنها في حد ذاتها تُعتبر ملخصًا لفلسفة فرج في الحياة، حيث قال فيها:
“ابن أختي العزيز عماد كبو رمو،
في البداية، أشكرك على المقال الموسع الذي تناولتَ فيه زيارتك إلى أوسلو. أنت لست أبدًا ضيفًا على أوسلو، بل أخ عزيز بين أهلك، سواء كانوا من بيت رمو أو اسمرو، أو من بين أصدقائك الكثيرين هنا. بصراحة، يبدو أن من يكتب عنا وعن أوسلو من خارجها لديه منظور واسع وعميق في جميع النقاط المهمة التي تشغل النرويجيين، وخاصة الأوسلويين منهم.
أما نحن، هذه الجالية المحببة إلينا، فنشعر حقًا بالأمان الثقافي والتراثي والإنساني، حيث إن مجرد استخدام مقومات قوميتنا الرئيسية، مثل اللغة والشعائر الدينية، هو تواصل لنا مع قيم الأجداد الذين تربينا على أيديهم.
لدي مداخلة واحدة حول الديمقراطية:
عندما أتيت إلى الغرب في منتصف ستينيات القرن الماضي، استغربتُ كثيرًا من أن الإنجليز يشتمون رئيس وزرائهم! فكنت أقول مع نفسي: لماذا لا يترك وظيفته ويعمل في وظيفة أخرى عوضًا عن كل هذه الانتقادات والشكاوى والشتائم؟ وقد استغرق الأمر عندي عشر سنوات حتى فهمتُ معنى الديمقراطية، والتفكير الديمقراطي، والعمل الديمقراطي في الحياة، خاصة أنني كنت قد أتيت من بيئة شرقية تكره الديمقراطية، وتنادي بالدكتاتورية، وتأليه القائد والرئيس.
جميع مؤسسات الشرق هي مؤسسات دكتاتورية، أما المؤسسات الدينية – ومن جميع الأديان – فإنها لا تعمل دون النظام الهرمي الدكتاتوري. ومن يريد أن يخدم ويعيش في الغرب، عليه أن يعمل مع الغربيين، ويتأقلم معهم، ويتعلم لغتهم وقيمهم وطقوسهم في الحياة، لكي يتمكن من استيعاب معنى الديمقراطية.
وسأضرب لك بعض الأمثلة عن الديمقراطية في المجتمع النرويجي:
- المثال الأول:
رئيسة الوزراء النرويجية خالفت قوانين كورونا أثناء احتفال عيد الميلاد، حيث أقامت حفلة بالمخالفة للإجراءات الصحية، فدفعت غرامة قدرها 20,000 كرونة، لأنه لا يوجد أحد فوق القانون. - المثال الثاني:
رئيسة البرلمان استقالت من منصبها لأنها خالفت قوانين الدولة فيما يخص استخدام عقارات الحكومة. فقد كانت تستخدم شقة لا تتجاوز مساحتها 40 مترًا مربعًا لأغراض وظيفية، رغم أن لديها شقة خاصة لا تبعد عن أوسلو سوى 29 كم، في حين أن القانون ينص على أن تكون المسافة 40 كم ليحصل رئيس البرلمان على شقة حكومية. وهكذا، من يخالف القانون يُعاقب هنا. أما من استلم رئاسة البرلمان الآن، فهو مسعود، الإيراني الأصل، من حزب العمل. فهنا، الكفاءة والصدق والإخلاص هي القيم العليا في المجتمع، وليس الانتماء إلى مؤسسات أو استلام مراكز عليا في الدولة، والتي تضمن لصاحبها في الشرق الاقتراب من منبر الآلهة!
وهكذا، نصيحتي لكل من يأتي إلى الغرب أن يمنح نفسه فترة طويلة قبل أن ينتقد الغرب وقيمه.
تحياتي لك، وسعدنا كثيرًا بزيارتك.”
وفي جمعة الموتى بتاريخ 28 شباط 2025م، أُقيمت صلاة الأربعين لرحيله، حيث أُلقيت كلمة الرثاء التي كتبتها بهذه المناسبة تحت عنوان “رسالة إلى السماء”:
منذ غيابك الجسدي عنّا قبل عدة أسابيع وحتى اليوم، أجلس أمام الورقة البيضاء محاولًا العثور على الكلمات المناسبة لرثائك، يا خالي العزيز فرج اسمرو. لكنني أجد صعوبة حقيقية في الكتابة عنك وأنت لم تعد بيننا. بل إنك، يا خالي العزيز، حاضرٌ معنا هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى. كم هو محزن أن تُقال الكلمات عنك اليوم وأنت لا تسمعها لبُعدك الأبدي عنّا. لكنك اليوم أقرب إلينا من أي وقت آخر.
رغم أنك لم تعد بيننا بجسدك النحيل، إلا أننا نعيش معك في كل لحظة، بأفكارنا وأحلامنا وذكرياتنا التي لن تغيب أبدًا. نحاول التواصل معك كل يوم، وكل ساعة، وكل لحظة. واليوم، نجتمع هنا في هذه الكنيسة المقدسة التي كنتَ تعتزّ بها، وتقدّم لها ما بوسعك من أجل استمرار الجماعة المسيحية في النرويج. نحن جميعًا، سواء الذين يحضرون هذا القدّاس الإلهي بأجسادهم أمام منبر الرب، أو الذين يتابعونه عبر أي وسيلة أخرى، نحمل في قلوبنا ذكريات جميلة معك. بل إنك كنتَ أحد مؤسّسي الجماعة المسيحية الأولى في أوسلو، قلب عاصمة النرويج، عبر مساهمتك الرئيسية في تأسيس إرسالية مار يوسف الكلدانية هناك. وهكذا، جمعتَ الكثير منّا في الأنشطة التثقيفية والسياحية التي كنتَ تنظمها بين حينٍ وآخر، وبنيتَ لنا ألقوش مصغرة في النرويج.
لقد أكملتَ مسيرة والدك المرحوم، وجدي، يوسف بولص اسمرو، الذي خدم ألقوش كما لم يخدمها أحدٌ قبله ولا بعده. وكل من يمرّ أمام ضريحه، أو يسمع اسمه في أي مناسبة، يقف احترامًا له ولأعماله الإنسانية التي خلدها الزمن.
أما جدتي المرحومة، حبي يوسف اسمرو، أختك الكبرى، فقد كانت تحدّثني عنك كثيرًا ونحن أطفالٌ صغار، بينما كنتَ بعيدًا عنّا في رحلتك الدراسية في الغربة. كنتُ حينها تلميذًا في مدرسة العزة الابتدائية في ألقوش، وفي كل يوم، أثناء دخولي المدرسة وخروجي منها، كنتُ أمرّ تحت لوحة الشرف الكبيرة، حيث كانت صورتك ضمن الطلبة المتفوقين على دورتك. تلك الصورة لا تزال محفورة في ذاكرتي حتى اليوم. كنتُ أعتزّ بك وبما حققته من مستوى علمي وأدبي رفيع، رفع رؤوسنا جميعًا.
أما والدي، داويذ كبو رمو، فقد بكى بحرقة حين أخبرته برحيلك. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها بكاءه، إذ لم أره يبكي من قبل. لقد أحبّك كثيرًا كحبه لأخيه الصغير، ياقو رمو. وهكذا نشأنا، نحن أبناء أختك المرحومة حبي، على ينبوع المحبة الذي كنتَ تغدقه علينا جميعًا.
وحين وصلتُ مع عائلتي إلى هولندا عام 1998، مغتربًا عن وطني، كنتَ أنت والعزيزة إنجيلا حبيب تومي أول من استقبلنا. كم كانت فرحتي عظيمة! كانت تلك المرة الأولى التي أجلس فيها معك وأستمع إلى حديثك العذب، وكم كان رائعًا. كل من اختار النرويج واحةً لغربته، استمتع بصحبتك، لكن اللقاءات التي جمعتنا بك، سواء في زيارتك لنا أو في زيارتنا لك، كانت الأجمل دائمًا. كنتَ تبذل جهدك في خلق لحظات سعيدة لكل من طرق بابك، الذي ظلّ مفتوحًا على الدوام، مثلما كان باب والدك المرحوم، وجدّي، يوسف بولص اسمرو.
ليرحمك الرب، خالي العزيز فرج يوسف اسمرو. ليرحمك الرب من آلامك التي صنعت منك إنسانًا محبًّا، طيب القلب، يعمل جاهدًا من أجل أخيه الإنسان. رحلتَ بتواضع وهدوء، ولم تفارق الابتسامة شفتيك. لقد تغلبتَ على الألم والمرض منذ صغرك، ولم تستطع الأوجاع أن تثنيك عن أعمالك الإنسانية حتى في أشد لحظات تعبك.
لم يمنعك جسدك النحيل يومًا من الحركة والعمل؛ كنتَ دومًا حاضرًا في كل تجمع إنساني، في محيطك العائلي وبين أصدقائك. وكل من عرفك، لن يجد سببًا لينسى ذكراك، فقد كنتَ تزرع الأمل في قلوب كل من التقى بك. ببساطتك المعهودة، كنتَ ترسم الفرح على وجوه الآخرين، وتترك أثرًا لا يُمحى في النفوس.
تعجز الكلمات عن وصف معدنك الإنساني الفريد، الذي نادرًا ما يجود الزمان بمثله. لم نجد لك شبيهًا في الماضي، ولن يجود المستقبل بإنسان حقيقي مثلك. لقد انتصرتَ على الألم طوال حياتك، وجعلَ منك إنسانًا صبورًا، ربما أكثر من أيوب نفسه. ليرحمك الرب، خالي العزيز.
وأتوجّه بأحرّ التعازي إلى أختي العزيزة إنجيلا، والأولاد الأحباء، وخالي العزيز أودا، في رحيل خالي الحبيب فرج، الذي انطفأت شمعته الآن، لكن نوره سيبقى يضيء أيامنا دائمًا.
وهكذا، ودّعت ألقوش المرحوم فرج اسمرو كشخصية فريدة، أعادت المنهج الحياتي لوالده الراحل يوسف بولص اسمرو. وكما دخل والده سجل الأشخاص الذين صنعوا ملامح الشخصية الألقوشية في ألقوش، هكذا فعل فرج نفسه في غربته الأوروبية، إذ يستحق أن يُدرج في سجل شخصيات ألقوش المؤثرة.
الصور المرفقة هي لمراحل مختلفة من حياة الراحل فرج ايسف بولا اسمرو