تحتفل الكنائس المشرقية في ختام سنتها الطقسية بزمن يسمى ” تقديس الكنيسة”، حيث تتأمل الليتورجيا وصلواتها المتنوعة بطبيعة الكنيسة وهويتها من خلال صور وتشابيه حياتية. هذا الزمن الطقسي يأتي في نهاية الدورة الطقسية السنوية لكي يعلمنا ان الغاية الاخيرة لتدبير الله هي الانسانية المخلصة بواسطة العمل الفدائي لابن الله المتجسد. النتيجة والهدف يحفزان شخصا ما لكي يبدأ ويستمر ويثابر ويتحمل. صورة الكنيسة الاواخرية وطبيعتها التي توصل من يعيشها الى هدف ونتيجة سامية ومجيدة، هذه الصورة تعتبر مشجعة للمؤمنين لكي يعيشوا ايمانهم الذي يجعل منهم كنيسة عارفين ان خصوصية عيشهم حسب ايمانهم ضمن الكنيسة سوف تبلغ بهم الى تلك النهاية السعيدة. ان الصور والتشابيه وحقيقة الكنيسة التي نتامل بها في هذا الزمن الطقسي ليست مجرد عواطف او كلمات حماسية او تشابيه تجعلنا ان نعيش في عالم الخيال، كلا، هي صور تترجم الى برامج حياتية وعلائقية واقعية يومية. ان كل حقيقة عن الكنيسة وهويتها هي دعوة لاظهار تلك الحقيقة من خلال متطلبات الحياة وسلوكياتها وعلاقاتها. الكنيسة هي سر، اي لها وجه مرئي واخر عجيب يفوق النظر والتصور. كل صورة وتشبيه للكنيسة يذكرنا بخبراتنا الحياتية التي نعيشها ونستوعبها ، ولكن في نفس الوقت يفتح لنا الافق نحو حياة وواقع اخر متسامي ابدي. نستطيع ان ناخذ بعض الصور من صلوات هذا الزمن المهم لانعاش تأملنا حول هويتنا ومصيرنا الجماعي.
- صورة العروس
ان تشبيه الكنيسة بالخطيبة والعروس هي صورة كتابية نجدها في سفر هوشع (2:14-23) وحزقيال (16: 8-14) وسفر نشير الاناشيد ونصوص اخرى، وايضا لدينا صورة المسيح العروس والكنيسة عروسته في رسالة بولس الرسول الى اهل افسس (5: 22-33). تقول تراتيال طقسنا: ” ايتها الكنيسة المؤمنة يا ابنة ملك العوالم افرحي بالعروس الذي خطبك وادخلك الى مقامه. عوضا عن المهر اعطاك جسده ودمه الكريمين. وبواسطة تضحيته غفر لك وقدسك وجعل منك عروسا بهية له. ومن خلالك مزج شرابا روحيا لكل ابناءك. الان يتنعمون في مقدسك فرحين، معهم نحن جميعا نهتف قائلين: المجد لك”. ( ترتيلة الاسرار للاحد الاول من زمن الكنيسة). هذه الحقيقة هي حقيقة فعل الفداء الناتج بسبب الحب الالهي المطلق للانسان. علاقة المؤمنين بالله هي علاقة حياتية وشراكة مطلقة، فجسد ابن الله هو طعام المؤمنين، وحياته اصبحت حياتهم. من هنا نفهم ماذا يعني ان تكون الكنيسة مقدسة: فيها توجد وسائل التقديس، اي طرق حضور الله في الانسان. الانضمام الى الكنيسة والسير معها في في قبول عطايا الله المجانية بروح واعية لمقدار حب الله يعني الاعتراف بدوره والسماح له بالعمل في حياتنا لكي تتغير وتكتسب هويتها الصحيحة الاخيرة. صور مشجعة تعلمنا ان الحياة الكنسية هي حياة عهد مع الله وحب متبادل يتجسد من خلال عيش قيم الانجيل في محبة الاخر والسير حسب سلوكيات نابعة من الشعور بالحرية الحقيقية، حرية العهد.
- الكنيسة هيكل الله
نجد في هذه الصورة ايضا صدى الكتاب المقدس الذي يتكلم عن سكنى الله ما بين البشر، سفر الاخبار الثاني ( 6: 18)، رسالة مار بولس الثانية الى اهل كورنتس تقول: ” أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” ( 3: 16). تستخدم صلوات هذا الزمن كلمة الهيكل والبيت للاشارة الى البناء المادي والى الجماعة المسيحية ايضا. نجد هذا النص: ” الكنيسة التي هي مسكن وهيكل محبتك الحقيقي، احفظها بسلام دائم ومحبة كاملة. خلصها من يد العدو: المجرب الخبيث. اقبل صلاتها مثل البخور اذ تصعدها لك مساءا وصباحا”. ( من تراتيل الدخول لرمش الاحد الاول من الكنيسة). صورة بيت الله تشير الى قرب الله من الانسان والانسان بذاته يصبح مسكنا وهيكلا يسكنه روح الله. هذه الحقيقة تعلمنا عن اهمية حياتنا وقدسيتها، تحررنا من القوالب الجامدة التي فرضتها توصيات الشريعة التي جعلت العبادة مقتصرة على مكان محدد، حضور الله في الانسان يعني ان الفضاء المقدس هو كل مكان، لقد افهم يسوع هذا الامر للمرأة السامرية التي اشارت الى الجدال بين اليهود والسامريين عن مكان العبادة، يسوع جاوبها: ” قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ” ( يوحنا 4: 21). ان مفهوم البيت يؤسس لعلاقات عائلية حميمة، فرب البيت هو اب لعائلته، والله الذي اصبحنا بيته هو اب لنا، يقول مار بولس: ” لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ!. وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله” ( رومانيين 8: 15-16).
- الكنيسة ميناء السلام
تشير صورة الميناء الى الامان الذي يبلغه من يسافر في ظل الاخطار، انه نهاية الرحلة وبلوغه يعني بداية حياة جديدة. المزمور 107 يقول: ” فيفرحون لأنهم هدأوا ، فيهديهم إلى المرفإ الذي يريدونه” ( مز 107: 30). فكرة الوصول مهمة لانها تحقق وتكمل مسيرة وسعي لا يكون سهلا. الكنيسة هي مكان الوصول لانها تؤمن الامن والسلام لمن يمر ضمن صراعات مزعجة وعلى الاخص عندما تضطرب الحياة بسبب الخطيئة، تقول احدى التراتيل: ” الى بيتك اتينا يا رب وتحت ظله نحتمي، وكالميناء نستريح فيه من بحر الذنوب المضطرب. يا رب لا تغلق باب حنانك في وجوه من يتوب، لأن ليس لنا ملجأ اخر غير كنيستك المقدسة” ( ترتيلة مساء الخميس الثاني من زمن الكنيسة). ترد ايضا صورة الملجأ الذي يبعث الشعور بالامان. الكنيسة تقدم وجه الحياة الابدية ابتداءا من هنا على الارض، فالمشاركة في حياتها وايمانها انما هو ضمان للمشاركة بالحياة الابدية والسلام الالهي الاخير.
- الكنيسة صوة الملكوت
لقد شبه الكتاب المقدس الازمنة المسيحانية، اي الزمن الذي به يحل ملك الله بواسطة مسيحه، من خلال صورة الوليمة، في اشعيا ( 25: 6-12) نجد هذا التشبيه. ايضا يسوع يشبه ملكوت الله بالوليمة في انجيل متى ( 22: 1-14). التراتيل التي تقال عند التناول للاحد الاول من هذا الزمن تقول: “اعترفي ايتها الكنيسة بفم ابناءك للمسيح الذي تألم لاجلك واسسك واقامك على صخرة الايمان الحقيقي لبطرس. زينك بالكهنة والمعلمين الذين يرضونه. اسس ووضع فيك مائدة الملكوت، جسده ودمه الكريمين”. الكنيسة هي صورة للملكوت، اي انها الجزء الذي يشير الى الكل، لان حقيقة الملكوت هي حقيقة في ظهور مستمر وسائرة نحو الاكتمال الاواخري. حقيقة كبيرة وشاملة والكنيسة هي صورة واضحة لها. تراتيل طقسنا تتكلم عن هذه الحقيقة عندما تضع الكنيسة كطريق الى الملكوت: ” في مسكنك ايتها الكنيسة المقدسة نرى حمل الله على المذبح بصورة رمزية، ومن يتبعه بمحبة يصبح معه بروح واحدة في الملكوت الذي لا يفنى، وينال منه اكليل بهيا وحلة المجد التي لا تبلى. وبواسطته يتقرب الى الاب كعضو في جسد يكون المسيح رأسه ونحن اعضاءه. اسجدي له جاثية لاجل هذه النعمة، لان المسيح هو سيدك ملك المجد، منه اطلبي ليرحمك”. ( ترتيلة الاسرار للاحد الثاني من زمن الكنيسة).
ختاما
لا يمكن لهذه الاسطر ان تستوفي التامل الذي تقدمه الليتورجيا المقدسة عن الكنيسة، حيث تبقى الكنيسة غنية بمعانيها وبمحتواها كما تقول صلواتنا:” ان كنيستك يا مخلصنا تحمل كنزا وغنى سماويا: كتاب بشارتك العظيم وخشبة صليبك المسجود له وصورة انسانيتك البهية، عظيمة هي اسرار الخلاص” ( من تراتيل الدخول للاحد الاول من الكنيسة). ان هذه المحتويات والمعاني ليست اثار لتكون الكنيسة معها متحفا، بل هي وسائل من خلالها يتدفق معنى الخلاص الى الانسان، تصبح فعالة كلما جعلنا منها موضوع خبرتنا الحياتية. حياتنا الكنسية الحقيقية هي حياة الملكوت المعاشة مسبقا هنا، هي عربون للحياة الابدية. هذه التشابيه والصور والمحتويات تدعونا اليوم لكي نعيش خبرتنا الروحية الشخصية ضمن خبرة اكبر هي خبرة الجماعة وهذا يكون عندما نضع انفسنا بوعي ضمن مفهوم ومنطق وحياة الكنيسة عارفين بدورنا فيها وعلاقتنا مع مؤسسها واعضاءها.