فاتيكان نيوز / شارك البابا فرنسيس، عصر الجمعة، في صلاة الغروب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان، والتي تأتي عشية الاحتفال بعيد القديسة مريم والدة الله، في الأول من كانون الثاني 2022، كما جرت العادة، ولرفع الشكر لله على نهاية سنة وبداية سنة جديدة.
وقال البابا في عظته: تدعونا الليتورجية في هذه الأيام لأن نوقظ بداخلنا الدهشة حيال سر التجسد. إن الميلاد هو ربما العيد الذي يحفز لدينا هذا الموقف الداخلي: الدهشة، والتعجب والتأمل، على غرار رعاة بيت لحم، الذين تلقوا أولا إعلانَ الملائكة النيّر، ثم هرعوا ووجدوا العلامة التي أُخبروا عنها، الطفل المضجع في مذود. سجدوا أمام المخلص المولود حديثاً والدموعُ تملأ عيونَهم. ولم يختبروا لوحدهم هذه الدهشةَ المقدسة، إنما أيضا مريم ويوسف على أثر ما قاله الرعاة عما سمعوه من الملاك بشأن الطفل (يسوع).
أضاف: وهكذا لا يمكن أن نحتفل بالميلاد بدون الدهشة. لكن هذه الدهشة لا تقتصر على مشاعر سطحية، مرتبطة بمظاهر العيد الخارجية، أو بالانفعال الاستهلاكي. إذا اقتصر الميلاد على هذا الأمر، لا يتغيّر شيء على الإطلاق: سيكون الغدُ مثل الأمس، وسيكون العام القادم كالذي ولى، وهكذا دواليك. وكأننا نتدفأ لبضع لحظات أمام نار القش المشتعل، عوضا عن تعريض أنفسنا، بكامل كياننا، إلى قوة المجيء، وعوضا عن إدراك جوهر سر ولادة المسيح.
تابع: هذا هو الجوهر: “الكلمة صار جسداً وحل بيننا” (يوحنا ١، ١٤). نسمع هذه العبارات تتكرر مرارا خلال هذه الليتورجية المسائية، والتي نفتتح من خلالها الاحتفال بعيد القديسة مريم، والدة الله. إنها الشاهدة الأولى، الشاهدةُ الأولى والأهم، لكنها في الوقت نفسه الأكثر تواضعاً. إنها الأهم لأنها الأكثر تواضعاً. قلبُها مفعم بالدهشة، بعيدا عن الرومانسية، والعواطف والروحانيات. كلا. إن والدة (الله) تعيدنا إلى الواقع، إلى حقيقة الميلاد، الموجودة في عبارات ثلاث للقديس بولس “مولود من امرأة” (غلاطية ٤، ٤). لا تستمد الدهشة المسيحية جذورَها من المؤثّرات الخاصة، من عالم الخيال، لكن من سر الواقع: لا يوجد شيء أكثر روعة ودهشة من الواقع! زهرةٌ، كتلةٌ من التراب، قصة حياة، لقاء… الوجه المتجعّد لعجوز، والوجه المكوّن حديثا لطفل. أمٌّ تحمل طفلها بين ذراعيها وتُرضعه. هناك يرْشَح السر.
بعدها قال البابا فرنسيس: أيها الأخوة والأخوات، إن دهشة مريم ودهشة الكنيسة مفعمتان بالامتنان. امتنانُ أمّ تتأمل بابنها وتشعر بقرب الله، تشعر أن الله لم يتخلَّ عن شعبه؛ لقد جاء، إنه قريب، إنه “الله معنا”. لم تختفِ المشاكل، ولم تنعدم الصعوبات والمخاوف، لكننا لسنا لوحدنا: إن الآب “أرسل ابنه” (غلاطية ٤، ٤) كي يعتقنا من عبودية الخطية ويعيدَ لنا كرامة البنين. لقد صار الابنُ الوحيد البكرَ بين أخوة كثيرين، كي يقودنا جميعاً، نحن الضائعين والتائهين، إلى بيت الآب.
لقد نمّى زمن الجائحة هذا في العالم الشعورَ بالضياع –مضى البابا إلى القول– ومع ردة الفعل الأولى، التي شعرنا خلالها بالتكافل على متن الزورق نفسه، انتشرت لدى كل شخص تجربةُ السعي إلى إنقاذ نفسه. لكن بفضل الله كانت لدينا ردةُ فعل أخرى، مطبوعة بحس المسؤولية. يمكننا فعلا أن نقول، بل يجب أن نقول: “شكراً لله”، لأن خيار المسؤولية التضامنية لم يأتِ من هذا العالم: إنه يأتي من عند الله، بل من عند يسوع المسيح، الذي شقّ – مرة واحدة وإلى الأبد – طريق دعوته الأساسية في تاريخنا: أي أن نكون جميعاً أخوات وأخوةً، أبناءً للآب الواحد.
وقال: إن روما تحمل هذه الدعوة في قلبها. ففي روما يبدو أن الجميع يشعرون أنهم أخوة؛ يشعر الجميع أنهم في بيتهم، بمعنى ما، لأن هذه المدينة تحفظ في ذاتها انفتاحاً كونيا. أجرؤ أن أقول إنها المدينة الكونية. وهذا الانفتاح يتأتى من تاريخها، ومن ثقافتها؛ إنه يتأتى أساساً من إنجيل المسيح، الذي ضرب هنا جذوراً عميقة روتها دماءُ الشهداء، بدءا من بطرس وبولس. ولا بد أن نحذر هنا، لأن المدينة المضيافة والأخوية لا تُعرف من واجهتها، من الكلمات، ومن الأحداث الرنانة. كلا. إنها تُعرف من الاهتمام اليومي، من الاهتمام تجاه من يواجهون صعوبات، تجاه العائلات التي ترزح تحت وطأة الأزمة، تجاه الأشخاص المصابين بإعاقات خطيرة وعائلاتهم، تجاه من يحتاجون يومياً لوسائل النقل العام للذهاب إلى مكان العمل، ومن يعيشون في الضواحي، ومن واجهوا الإخفاقات في حياتهم وهم بحاجة إلى الخدمات الاجتماعية، إلخ. إنها المدينة التي تنظر إلى كل واحد من أبنائها، إلى كل واحد من سكانها، بل إلى كل واحد من ضيوفها.
تابع: روما مدينة رائعة، ما فتئت تدهش الناس؛ لكنها مدينةٌ متعِبةٌ بالنسبة للمقيمين فيها، وهي لا تقدم دائماً، وللأسف، حياة كريمة لأبنائها وضيوفها، ويبدو أحياناً أنها تقوم بإقصاء الأشخاص. أمنيتُنا إذا هي أن يتمكن الجميع، السكان والمتواجدون فيها بدافع العمل أو الحج أو السياحة، أن يثمّنوها على اهتمامها بالضيافة وبكرامة الحياة، وبالبيت المشترك، وبالأشخاص الأكثر ضعفاً وهشاشة. أمنيتنا هي أن يشعر كل شخص بالدهشة مكتشفا في هذه المدينة جمالا “منسجما”، يحفز الامتنان. هذه هي أمنيتي لهذا العام.
في ختام عظته مشاركًا صلاة الغروب في البازيليك الفاتيكانية قال البابا فرنسيس: أيتها الأخوات، أيها الأخوة، إن الوالدة اليوم –الوالدة مريم، والدة الكنيسة– تُظهر لنا الطفل. تبتسم لنا وتقول لنا: “إنه الطريق، اتبعوه، وكونوا واثقين. إنه لا يخيّب”. لنتبعه في مسيرتنا اليومية: إنه يعطي الزمنَ ملأه، يعطي معنىً للأفعال وللأيام. لنكن واثقين في الأفراح والأتراح: إن الرجاء الذي يمنحنا إياه هو رجاءٌ لا يخيّب أبدًا.