لننقذ الاسرار
عندما ندعوا للانقاذ فهذا يعني وجود خطر يحدق بمن ندعو لانقاذه. قد يبدو هذا الطرح غريبا ولكن بعد الدخول في الموضوع وايضاح ما نقصد به سوف نفهم ماذا يعنيه عنوان هذا المقال. ان اسرار الكنيسة التي نمارسها ونشرحها بالحقيقة هي موضوع حياة الكنيسة، من دونها لا توجد حياة كنسية. اسرار الكنيسة هي استمرار لاحداث الخلاص التي حققها المسيح وتصبح حاضرة عند ممارسة هذه الاسرار. هذه الاسرار هي المسيح بالذات لاننا بواسطتها نلتقي بالمسيح الذي يخلصنا. من اجل هذا يتطلب من الذين يقبلون هذه الاسرار موقفا خاصا يتسم اولا بالايمان. نحن نؤمن اننا نعيش احداث المسيح ونتائجها الخلاصية من خلال الاحتفال بالاسرار واقتبالها. هذا الايمان يساعدنا اولا ان نؤمن بفعل المسيح الخلاصي وضرورته القصوى من جهة وان نراه هو تحت اشكال وعلامات ورموز من جهة اخرى. الايمان بفعل المسيح هو دعوة للدخول الى اعماق ذاتنا الانسانية والتماس حاجتها الى الله الذي اتى الينا بشخص ابنه المتجسد. والايمان برؤيته في اسرار الكنيسة يعني فتح عيون قلوبنا لنراه من خلال واقع الحياة المحسوس وتفاصيلها التي منها تكونت الطقوس واخذت مواد تصبح مواد اسرارية بها يعطى المسيح لنا.
ايضا المشاركة بالاسرار تتطلب تغييرا داخليا به تصبح النفس المؤمنة مكانا ملائما لتحل فيه الاسرار، اي يحل فيه المسيح. هذا التغيير يعني اعتبار الاسرار امرا فائق الطبيعة لا يستهان بها. يتطلب من المؤمن ان يغير سلوكه الذي لا يتفق مع منطق الله متخذا موقفا يريده الله، اي التوبة. اسرار الكنيسة هي نعمة مجانية، اي ان الله يعطينا خيرا عظيما من دون ان يكون هناك طلب منا او دفع بالمقابل. عيش الاسرار يعني الشعور بمكانتنا في فكر الله. لاننا احباء على قلبه هو قد خلصنا ويستمر في خلاصنا بحضوره دوما معنا في الاسرار
ان هذه المواقف التي ذكرناها هي بالذات ما يطلبه منطق الاسرار ولاهوتها من المؤمن. في نصوص الصلوات التي ترافق الاحتفال بهذه الاسرار يمكننا ان نستخلص هذه المطاليب والمواقف من اجل ان يكون احتفالنا فعالا. ما يحيط باسرار الكنيسة اليوم من مخاطر يتمثل بطروء مواقف غريبة اصبحت وكانها اساسية في عيش الاسرار والمشاركة بها. مواقف تشابك بها البعد الاجتماعي مع الايماني. نعم الاسرار لها بعد اجتماعي وانساني لان منحها ونتائجه الخلاصية هي موضوع فرح وتواصل وانعكاس على الواقع الاجتماعي، ولكن هذا البعد يجب ان يكون نتيجة وليس هدفا. لان اللقاء بالمسيح هو هدفنا الرئيسي اصبحنا اخوة وجماعة نفرح ونتواصل كنتيجة. ولكن ايضا هذه ممكن ان تكون هدفا وليس نتيجة: لان اللقاء بالمسيح في الاسرار يتطلب واقعا اجتماعيا جديدا. انها معادلة دقيقة جدا تتطلب حذرا وتمييز واعي. بخلاف هذا يختل التوازن وتصبح الاسرار في وضع خطير.
اذا كانت الاسرار موضوعا محصورا في الطقوس وداخل بناية الكنيسة ومحددة بوقت احتفالها فقط، فهي تصبح عبارة نزعة روحية فارغة او طقسوية لا غير. واذا ما استغلت اسرار الكنيسة لتصبح ذريعة للترفيه عن النفس وفرصة للبذخ او المكسب وعيش سلوكيات صاخبة وارتداء ازياء فاضحة ومعادلات وحسابات عائلية تقوم على اساس الحقوق والواجبات الضيقة، لا بل مواقف يقوم بها هؤلاء لا تمت بصلة للمسيحية وضد توجيهات الكتاب المقدس، تصبح الاسرار امرا ماديا بحتا وعائقا عوضا ان تلتقي بواسطتها بالمسيح تحجبك عنه. اذن التمييز المستنير وفهم ما تعنيه الاسرار سينقذها من ان تصبح مبتذلة على كافة الاصعدة.
اليوم اصبح مفهوم نيل الاسرار كمحطة خلاصية محدودا اذ طغت العادات الاجتماعية على البعد الروحي للاحتفال بالاسرار. لا بل اصبحت بعض التفسيرات الراعوية او الرؤى اللاهوتية او الاحتفالية سببا لخلق عدم توازن بين البعد الروحي للاحتفال بالاسرار والجانب الاجتماعي. اورد مثالا على هذا من ملاحظة طريقة الاحتفال بمنح سر القربان الاقدس. بسبب تاخير منح القربان الى عمر العشر سنوات او الاثني عشر سنة وما يرافقه من اعداد ترسخت في فكر الجميع عادة اقامة احتفال دنيوي يتعقد سنة بعد اخرى محاطا بعادات ثانوية طارئة وحسابات عائلية تخص طبيعة علاقة العائلة المحتفلة باقرابائها ومدعويها وهلم جرا. نحن نعلم ان من قبل العماذ يحق له تناول القربان بعد التحضير اللازم الذي تتطلبه المرحلة العمرية للمتناول. اصبح اليوم يربط سر التناول بالفهم والادراك: لا يمكن للطفل ان يتناول لانه لا يفهم، ولكن لماذا عمذ وعمره ايام او اشهر؟. اليس العماذ والميرون اسرارا؟. القربان يمنح في القداس ولا يلزم المتناول بارتداء ملابس لا تمت بصلة الى واقعه ( لا يوجد من يرتدي ثوب الرهبان في حياته الاعتيادية الا الرهبان – في التناول الاول تصمم ازياء تشبه زي الرهبان نوعا ما). الاحتفال بالقداس هو حسب طقوس الكنائس حسب الاحاد والاعياد فلماذا توجد اضافات لربما لا تتلائم من لاهوت ذلك الطقس المحتفل به او مع تركيبة القداس الليتورجية. اليست الاسرار هي المسيح الذي يقدم ذاته للكل وكل حسب كفاءته وقدرته وعمره؟. اليس منح القربان للمؤمنين منذ نعومة اظافرهم تربية وخبرة روحية ترافقهم كمعمذين في كل مراحل حياتهم يتعاملون معها في كل مرحلة عمرية حسب امكاناتهم العقلية ومرحلتهم الحياتية؟. نعم هذا هو اللاهوت الاصيل كل مؤمن يتناولالقربان له خبرة خاصة يختبر بها الخلاص سواء كان طفلا رضيعا سواء كان عالما لاهوتيا، المسيح هو للجميع. نعم ارادت الكنيسة ان تحافظ على مكانة الاسرار وقيمتها ففرضت بعض الالزامات الراعوية، ولكن اليوم يجب ان تراجع هذه الالزامات قبل ان تصبح فرصة لبروز عادات اجتماعية تصبح هدفا رئيسيا يتستر خلف قناع الاسرار.