اكي /
الفاتيكان ـ ابتسام حبيب كوركيس راهبة عراقية تنتمي إلى الراهبات الفرنسيسكانيات مرسلات قلب مريم الطاهر. التقينا بها في القدس حيث كانت تقضي فترة قصيرة من الرياضة الروحية. لديها ابتسامة معدية ووجه ينقل الصفاء والسلام الداخلي. على الرغم من الفظائع التي دعتها الحرب في بلادها لكي تشهد عليها. “ولدتُ ونشأت في قرقوش”، مدينة آشورية في شمال العراق، تقع على بعد ٣٠ كم فقط من الموصل، وبالقرب من أنقاض مدينة نينوى القديمة. واللهجة التي يتم التحدث بها هناك هي مشتقة من الآرامية “نحن نتحدث لغة يسوع” تقول الأخت ابتسام بفخر، لكنها تتحدث أيضًا بطلاقة وبشكل صحيح، اللغة الإيطالية التي تعلمها خلال سنوات الابتداء. قرقوش هي منطقة مسيحية صغيرة في شمال العراق، لها تقاليد آشورية وكلدانية “لكننا عشنا دائمًا في سلام واحترام متبادل مع جيراننا المسلمين”.
“في الحقيقة، لم أفكر في الأمر أبدًا، لأنه على الرغم من عيشي في بيئة أبوية وتقليدية، إلا أنني كنت مُستقلّة على الدوام. أنا غيورة جدا على حريتي. حتى الآن – وتضحك – وأنا أرتدي هذا الحجاب”. فكيف حدث ذلك؟ “التحقت بمجموعة الجامعة الكاثوليكية، حيث درست علم الأحياء. في ذلك الوقت، يجب أن أقول، لم نكن نعيش بشكل سيئ: بعد حرب الخليج الأولى، كنا معزولين عن العالم، ولم نكن نفهم ما كان يحدث خارج حدودنا، لكننا كنا نعيش في سلام. لقد كان طارق عزيز، وزير الخارجية – الذي كان في الواقع رئيسًا للوزراء – مسيحيًا كلدانيًا وهو من تل كيبي القريبة جدًا من قرقوش. لقد كان هناك شيء واحد أحبه حقًا في كفاحي بين الشباب الكاثوليك: مساعدة الفقراء.
كنت أجد متعة في فعل الخير. لم يكن ذلك إشباعًا أنانيًّا، بل كان يمنحني سلامًا داخليًّا، ويعيد لي المعنى الحقيقي للإنسانية: العيش مع الآخرين ومن أجل الآخرين. لكنني لم أكن أجد مكانًا لأحقّق نفسي بالكامل. جاء راهب فرنسيسكاني لزيارتنا. وتأثرت به كثيرًا، فقرأت سيرة القديس فرنسيس وأضاءت في قلبي نور صغير. ثم جاءت راهبتان إيطاليتان ودعتاني لزيارة ديرهما في الأردن. كنت في تلك الفترة في المرحلة المعروفة عندنا بسن الزواج، ولكن … لكنني أردت أن أكون حرة. عندما شعَرَت عائلتي أن نظري كان يتوجّه نحو شيء آخر، أصبحوا قاسين. وقال والدي عند باب المنزل للراهبات: “هذه ابنتي وليست ابنتكنَّ”، ومنعهنَّ من الدخول. في النهاية، بعد الكثير من الإصرار، استسلم وسمح لي أن أغادر إلى الأردن. رحلة برفقة عمي استغرقت ١٨ ساعة بسبب الحصار الذي كان فيه بلدنا.
لم يكن الدخول سهلاً، ولم أكُن أفهم اللغة كثيرًا، وكان عليَّ أن أتعلم الإيطالية، وكانت الراهبات تتبعنَ الطقس السرياني وليس الطقس اللاتيني، ولذلك لم أكن أفهم شيئًا في القداس وصلاة الصباح وصلاة الغروب، بالإضافة إلى نظام حياة الذي لم أكن أعرفه. نقطة اللاعودة، والتي قد تبدو سخيفة، كانت قص الشعر؛ إنقطاع حقيقي عن الحياة السابقة. لكن على الرغم من كل الصعوبات التي كان عليَّ أن أتغلب عليها، كُنتُ أشعر بسلام داخلي كبير. إنَّ التغييرات الحياتية تخلق بشكل عام الأرق والقلق. لكنَّ هذا التغيير، على الرغم من جذريته، قد ولّد في نفسي الكثير من السلام. “كنا أربع فتيات من قرقوش، وكان هذا الأمر مصدر تعزية لي، إذ كان هناك على الأقل أحد يمكنني أن أتحدّث معه وأن يفهمني. وبعد ٩ أشهر سمحوا لي بأن أعود إلى البيت وأرى أهلي مجدّدًا، ومن ثم أرسلوني إلى إيطاليا لمرحلة الابتداء”.
“نعم. في البداية أرسلوني إلى الأرض المقدسة، إلى بيت لحم والناصرة، ثم ثلاث سنوات إلى بغداد، حيث التزمت في مجال التربية، حتى ذلك اليوم الرهيب في ٦ من آب أغسطس عام ٢٠١٤”. كنت في مدينتي، مسقط رأسي. وكانت داعش قد دخلت منطقة نينوى. ولم يكن هناك ماء وكهرباء في المنازل. ثم سمعنا دوي انفجار. لقد أصيب منزل في الضواحي بصاروخ. فهرعنا إلى هناك، ووجدنا فقط ركامًا وجثثًا. مع دفن الموتى، بدأ الهروب الكبير. خمسون ألفاً، دون تمييز ديني أو سياسي، تركوا منازلهم والمدينة. لأنَّ قصص الرعب التي كانت تصلنا من المناطق التي احتلتها داعش لم تترك لنا خيارًا آخر سوى الفرار. وهكذا عند دخولها قرقوش، لم تجد داعش أحدًا. لقد ساعدنا أكبر عدد ممكن من الناس، وبكل الوسائل، لكي يهربوا. وهكذا ١٢٠ ألف شخص من جميع انحاء نينوى توجهوا إلى كردستان.
بقينا نحن الراهبات حتى النهاية، من جهة لمساعدة النازحين ومن جهة أخرى لأننا لم نكن نعرف إلى أين نذهب. نمنا في الشارع لنكون مستعدات للهروب. ثم أمرنا الأسقف بالمغادرة: كنا آخر من غادر قرقوش، غادرنا عند الساعة الثانية صباحًا وعند الخامسة كانت أولى بؤر داعش قد احتلَّت المدينة. عندما كان رجال داعش يدخلون مدينة ما، كانوا يتركون للأشخاص ثلاث خيارات: إما أن تصبح مسلما، أو تدفع، أو نقتلك. وكل عائلة تقريبا لديها موت وحداد. لقد حرقوا ربع المنازل ونهبوها جميعها ودمّروا الكنائس. لقد عملنا مع الكنيسة الكاثوليكية بأكملها لمساعدة النازحين الذين عاشوا لشهور في الخيام أو في منازل مؤقتة. ثم تمت إعادتنا مجدّدًا إلى الأرض المقدسة، عبر الحدود الأردنية. ليلة استمرت أكثر من عامين. تمَّ تحرير قرقوش في ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) عام ٢٠١٦ في معركة الموصل. بعد ذلك التاريخ بدأ بعض السكان في العودة. لكن الكثيرين، لاسيما الذين لجأوا إلى الخارج، لم يعودوا أبدًا. واليوم لا يزال الوضع مؤلمًا، فإعادة الإعمار بطيئة، ولا يوجد عمل، وهناك الكثير من الفقر”.
“اليوم عدت مجدّدًا إلى بلدي. وأدير مع راهبتين روضة أطفال تضم أكثر من ٥٠٠ طفل. كانت زيارة البابا فرانسيس العام الماضي خطوة أساسية لخبرتنا. فقد أعاد إلينا النفَس ولأول مرة منذ سنوات شعرنا أن هناك شخصًا يهتم بنا حقًا، شخص يحبنا. جعلنا نشعر بأننا قيّمين للكنيسة. نحن أحياء ونحن في الإيمان. لقد أعطانا الفخر بين الأديان الأخرى، بين المسلمين الذين هربوا أيضًا، مثلنا، من فظائع داعش. عندما رأينا ولمسنا البابا فرنسيس في هذه الأرض، هنا بجانبنا، أدركنا عندها أن الأمر قد انتهى. لقد انتهى الأمر حقًا، ويمكننا الآن أن نطوي الصفحة. لم تكن “زيارة” البابا فرنسيس مجرّد زيارة، بل كانت بمثابة إعادة إلى الحياة”.