من حكايا القوش الشعبية
نبيل يونس دمان
في اواسط الاربعينات من القرن الماضي ، كنت اتردد على بيت اختي المتزوجة من رجل آثوري في قرية ( ماكنن ) التي تقع جنوب شرقي القوش بمسافة 12 كيلومتر . في ذلك الريف الجميل وانا الشاب المقبل على الحياة ووسط مجموعة اشورية متماسكة اشتهر منهم كَُليث شماشا كنو ابان احداث 1933 الدامية ، هناك انصب ولعي واهتمامي في تربية كلبة صغيرة سميتها ( كَرجي ) . بمرور الايام كبرت كرجي وانا اطعمها واشربها الحليب الطازج من قطعان القرية ، كل شيء مضى بهدوء ورتابة وانا اقطع الطريق الترابي الممتد بين القوش- ماكنن بين فترة واخرى ، تاسرني المناظر الخلابة والحقول الزراعية الممتدة على مرآى العين حتى تلتحم بالجبل .
في احد الايام وانا في الطريق الى ماكنن ممتطيا حماري و معي كلبتي ( كَرجي ) ، ثارت بوجوهنا عاصفة من الغبار ، انجلت عن مرور قطيع كبير من الاغنام العائدة الى دير السيدة حافظة الزروع ، بقيادة راعٍ اسمه ( بولص ميخو) المعقوف الشاربين وعلى كتفه بندقية ( برنو ) الشهيرة آنذاك . وكان يسير مع القطيع فصيل من كلاب الدير ( الذكور ) تقودهم انثى ضخمة الجسم قوية ومعروفة في المنطقة بشراستها ، ومن المعلوم ان الدير يهتم كثيرا بكلابه لحراسةاملاكه ليلا ونهارا من اللصوص والعابثين . وعلى حين غرة ، اشتبكت ( كَرجي ) مع كلبة الدير في عراك شديد و الكلاب تراقب المشهد دون ان تتدخل فيما انا المرتجف خوفا اضغط على جانبي حماري الذي تسمر في مكانه ، وبعد فترة استطاعت كرجي ان تمسك غريمتها بقوة من عنقها لتتركها جثة هامدة ؛ . اثار ذلك الراعي فتناول بندقيته وهو يصوّبها باتجاه ( كَرجي ) ، وفجاة تملكتني الجراة فصرخت باعلى صوتي ان لا يقتلها ، فاجابني بانفعال كيف لا وانها قتلت كلبة الدير ؟ . قلت له يا عم ” ان جنس الكلاب يختلف على امور نجهلها وتتقاتل فيما بينها والنتيجة كما شاهدت موت احداها ” ، واردفت ايضا ” انها المصادفة التي قادت الى تلك النتيجة وانا لم اكن اتمنى ما حصل ” . ولكن الراعي بولص اصر ان يقتل ( كَرجي ) ، هنا قلت له ” انا صغير السن لا اقوى على منعك ولكن لي اهل تعرفهم جيدا وسابلغهم بما يحصل والنتيجة لن تكون في صالحك ” . هنا تراجع الرجل على مضض وسمح لي بالمرور بسلام الى ( ماكنن ) .
في تلك الفترة ايضا قتل خمسة مسلحين اكراد في اعلى وادي الدير ، نتيجة صراع عشائري معروف في تلك المنطقة بين قبيلتي الشيخ نوري والحاج ملو المزوريتين . جلبت جثثهم اولا الى مركز شرطة القوش ، ومن ثم الى الموصل للتشريح . كان الضحايا من جماعة الشيخ ، وفي تلك الفترة ايضا كان مامور مركز القوش موصليا يدعى ( انيس كشموله ) . اعتقد رجال الشيخ بان الضابط المذكور لم يفعل اللازم في تعقب القتلة ، ولذلك قرروا اغتياله ، فارسلوا مجموعة مسلحة في عتمة الليل الى القوش لاغتياله ، وكان يقيم في المنزل العائد الى ( شعيا حكيم ) في محلة اودو .
في ذلك المساء الصيفي من اماسي القوش والناس نيام فوق السطوح ، اخذ الرجال يدورون حول المنزل بحذر وخفية شديدتين ، بهدف ايجاد منفذ اليه لتنفيذ العملية ، واذا بالكلبة ( كَرجي ) تقفز من سطح منخفض الى الشارع ، وتهجم بضراوة على المسلحين الذين تفاجأوا بوثوب الكلبة السريع ، وتسلقت بخفة على ظهر احدهم بهدف إمساك رقبته ، فما كان من احد اصحابه الا ان يستل خنجره ويطعنها طعنة الموت ، فسقطت على الارض لافظة انفاسها بعد ان اطلقت عويلها المحزن . صحت المحلة ومامور المركز على الجلبة التي حدثت وادركوا جميعا الخطر الذي كان محدقا ب انيس كشمولة ، وكيف ضحت الكلبة بحياتها فانقذته . ويواصل الراوي حديثه متاسفا على فقدان كلبته ( كَرجي ) التي تربت على يديه ، ويقول متذكرا بكاءه الساخن عليها ، بانه لازال يتذكر تلك الحوادث بعد مرور قرابة الستين سنة عليها .
nabeeldamman@hotmail.com