نبيل يونس دمان
” غَنِّ إذا جاء الربيع واحك حكايا إذا جاء الشتاء ” (1)
كانت العادة في القرى والبلدات الواقعة في الريف العراقي هي اقتناء السلاح للضرورات التي تقتضيها الحياة الريفية وتقلب الاحوال الامنية. كان الاهالي يحتتفظون بالسلاح كأعز ما يملكه الرجل بعد أسرته للدفاع عن عرضه، املاكه، بيته وغالباً ما يحمله في تنقلاته بين القرى وفي شعاب الجبال لدرء الاخطار من قطاع الطرق او من الحيوانات المتوحشة .
حامل السلاح يكون على اهبة الاستعداد لما يدور حوله ، فما ان يسمع اصوات اطلاق النار او الاستغاثة خصوصاً في الليالي المعتمة , تراه يهرع لتغيير ملابسه ويحمل سلاحه ليغادر البيت بإتجاه مصدر النار ، او يصعد على سطح منزله للتنصت ومعرفة اتجاه الرمي وعليه ان يحضر في الحال لدعم واسناد المعتدى عليه ، وبالطبع ليس الكل متساوين وبنفس الشجاعة والاندفاع , فهناك من يجترحون المآثر على ذلك السبيل وهم يعدون على اصابع اليد في جرأتهم الفائقة واقتحامهم للصعاب وبواسطتهم يكون الفخر لتلك القرية او البلدة التي ولدوا وترعرعوا فيها او انتسبوا اليها.
دخل السلاح القوش منذ فجر التاريخ وقد كان بدائياً ثم تطور مع الزمن, والى اوقات قريبة ( اكثر من مئةعام) كان شائعاً حمل السيف والترس ، فكان يعلق في الرقاب او يوضع في غمد خاص ( كفلان ) على سروج الخيل. عن السيف يقول مطلع اُغنية شعبية القوشية ” …… مُثيالن بسيبِ شليخِ، ومَقُبلانِ يريخِ ” أي اتينا بعروستنا بالسيوف المشرعة والعُصي الطويلة. ودخل القوش ايضاً الرمح الذي كان يطلق عليه محلياً( غدّارِه) ومن المعروف ان البطريرك مار حنانيشوع من بيت ابونا العريق قد قتل بالرمح على يد عمه دنحا في منافسة عائلية حادة على مركز الجاثاليق الرفيع عام 1653. وكذلك شاع استخدام الخنجر على اوسع نطاق لصغر حجمه وامكانية اخفائه وباحجام مختلفة , والخنجر انواع منه العادي والمسموم والمرصع بمعادن ثمينة وذو المقبض الخشبي والعاجي والابنوسي وهناك الى الآن شعوبا تعتز بحمله كتقليد شعبي كما في اليمن حيث يكون معقوفاً ويطلقون عليه كلمة ( جَنبي) . يقول مطلع اغنية شعبية اخرى في القوش ” آنا زيلن بدزالي, خا بسكخ هلّي طالي, تد خَذِنِّ لخَنجاري ” اي انا سأُسافر فاعطني خصلة من شعرك لكيي ألِفّها حول خَنجري , وامتع استخدام للخناجر كان في المناسبات الشعبية وحفلات الزواج حيث يرقص حاملوا الخناجر وهي مسلولة بخفة وبطريقة مثيرة للاعجاب , و طالما وقعت حوادث الطعن بالخناجر خصوصاً في الاعراس عندما تلعب الخمر في الرؤوس وكانت نادراً ما تؤدي الى الوفاة.
قبل عدة قرون شاع استخدام البنادق ( تفنكَِ) التي تعمل بطريقة الحشو، واهم انواعها ( رَشوكي) و (سندُقلي) ، فكانت تحشى بالبارود والاحجار الناعمة وخرق الملابس ، واختص عدد من البيوت في صنع البارود مثل بيت خانمي وآخر من كان يصنع البارود هو المرحوم ياقو هرمز قيا وقد كان يترك نوع من الاخشاب المسماة خليف ( خِلابا ) لفترة من الزمن حتى تتحلل تماماً ، واستخدم فيما بعد المرحوم متي هاول واخيه ميخا البارود في تعبئة الطلقلت( قوانات ) لانواع احدث من البنادق والمسدسات (دبنج) وكسريات الصيد (قرمة) وتوليا ايضاً تصليح ( يطلق على القائم بالتصليح جقماقجي) المعطوب منها . واهم تلك الانواع : كجك جابي ، قُنكَر ، قنكَر سواري ، شش خانة ، خَبر دان ، مفتلي ، روسي( من عهد القياصرة) ، سي بازل( يوناني ) ، دارجوي ، سي تيرة ( سعة ثلاثة اطلاقات ) ، بنج تيرة ( سعة خمس اطلاقات ) ، دوازده ميل ( 12 ميل ) ، ماوَزَرْ ، مَنَهير، هدية باش.
اعقبها جيل احدث من الاسلحة النارية التي تحتوي على الدرباس ومخزن الطلقات واهمها الانكليزية التي تتسع 10 طلقات ( هناك تقليد لها تسمى بولوني ) ، والبرنوالمصنوعة في المانيا وجيكسلوفاكيا والتي تتسع 5 طلقات وتكون طويلة او قصيرة او متوسطة حسب طول السبطانة وقد صنع تقليد لها في مصر سميت ( صليبِ ) واخرى في ايران سميت رقم 17 , بعد بيان الحادي عشر من آذار 1970 اطلق هتاف بالكردية يقول “برنو رقم حافديه نيشانه بيشمركَيه” اي برنو رقم 17 هي شعار الفدائي.
وانشد الالقوشيون في البرنو ” يا يمي ان كيبتّي ، برنو كريثه بزونتّي ، ورّيشد طورة مّسقتي ، وليِِِِِذد توما مسلمتي” اي يا امي لو تحبينني , اشترِ لي برنو قصير واصعدي بي الى قمة الجبل ، والى يد توما تسلميني. ويذكر بان اول شخص ادخل البرنو الى البلدة كان المرحوم بيبي تولا .
في فترات معينة كان السلاح يقل ويختفي من البيوت بسبب لجوء الحكومة للتفتيش عنه ومصادرته وربما يسجن صاحبه بسبب حيازته له وكانت تعطى اجازة في حمله خصوصاً لاصحاب المواشي في فترة الحكم الملكي . ومنذ الستينات من القرن المنصرم حرم حيازة السلاح خارج صفوف السلطة ، واضطر الكثير من الناس لاخفاء قطع سلاحها في اماكن خاصة واحياناً تحت الارض وغالبا ما كانت تفقد جودتها عند الحاجة اليها . وتقاس جودة البندقية بنظافة معدنها واخمسها وكذلك لولبية داخل السبطانة ( خانات ) واذا فقدت تلك الخانات يقولون متندرين بانها عجوز بدون اسنان ، وكذلك تقاس بقطر فوهة السبطانة فكلما كانت ضيقة تكون افضل.
كان الاهالي يعجبهم بخاصة في المناسبات والاعياد والمهرجانات الربيعية مثل ( شيرا الربان هرمزد) ، حمل اسلحتهم وعرض افضل ما لديهم من انواعها، ثم يتسابقون فيما بينهم في اصابة الهدف ( عمنج ) ، ويتم التصويب والرمي وسط متابعة الجمهور وتشجيعه ، وعند الاصابة يفرح الجمهور ويتهلل ويصبح اسم الشخص الذي وفق في الاصابة على كل لسان . كانت تلك من اجمل تقاليد حمل السلاح.
حمل الالقوشيون السلاح في كل زمان ، لا للاعتداء وانما للدفاع عن انفسهم ضد الاعتداءات المحتملة والتي وقعت لهم كثيراً في الماضي واستبسلوا في الدفاع عن كرامتهم واملاكهم ، فقد حملوها في تجوالهم وفي مزارعهم وطرق تجارتهم وفي طريق الرحى في ( قصرونه )(2) و ( بندواية )(3) ، وكم وقعت حوادث في تلك الطرق واقربها للذاكرة مقتل الراهب عوديشو ميخو والرجل الطيب كبو رمو في النصف الثاني من اريعينيات القرن الماضي . وكذلك حُمل السلاح للصيد، ففي وادي( نيرد ايوه)(4) مثلاً كمن العديد من اجيال الالقوشيين ليجندلو عدد غير قليل من ماعز الجبال ( نيري ) ذو القرون المتشعبة الذي يصعب اصطياده لنباهته وخفته , وهناك من علق قرونها في داخل بيته او على باب او سطح داره ومنهم بتي القس يونان. في مطلع الاربعينات من القرن الماضي اصطاد موسى شمعون طعان ضبعاً بطريقة لا تخلوا من الجرأة ، فقد دخل عارِ في كهف ينزوي فيه ومعلوم ان الحيوانات المتوحشة تخشى الانسان العاري ولا تهاجمه فانحسر في زاوية مظلمة والصياد لا يميز سوى شعاع النور من عينيه فأطلق النار عليه ليرديه ويسحبه الى الخارج ثم البيت وليحنطه ويعرضه في الساحة عند مركز الشرطة ( قصيلة دبي رابي اوراها ) ليستمتع بمنظرها الناس وخصوصاً الاطفال الذين تأسرهم مناظر الحيوانات المتوحشة كالضباع (هَفتارِ) .
وكذلك اجتهد حبيب شمعون طعان في استنباط فكرة في مزرعته ب( بيكلبا)(5) لصيد الحيوانات البرية كالغزلان والثعالب والارانب وغيرها بطريقة مثيرة وذلك باخفاء البندقية بين الحشائش وتصويبها تجاه الحيوان ،فما ان ياتي لشرب الماء من مكان إعتاد عليه حتى يجد ضلفه قد دعس خشبة مخفية ومشدودة بخيط متين الى زناد البندقية فتنطلق الرصاصة ويسقط الصيد في حوزة الصياد حتى لو لم يكن متواجداً هناك .
كان ابناء القوش يعتزون بسلاحهم ويتباهون به وياخذون الصور الفوتوغرافية وهم مدججون بالسلاح ، حتى ان قسماً منهم يرسمون الاسلحة على شواهد قبورهم . وبهذه المناسبة ادرج ما رواه لي المرحوم يلدا ( الملقب كلندو) بوداغ من حكاية طريفة بهذا الخصوص لتكون خاتمة هذا الموضوع فيقول :
” عصر احد الايام حدث اطلاق النار في الطرف الآخر للبلدة ، في ذلك الوقت كان اخي الكبير(الملقب تاسو) مسؤولاً عن بندقية البيت ، وقد قمت باستغلال غيابه في حمل البندقية واحزمتها الصفراء الجميلة والاسراع الى مكان الحادث ، وعند رجوعي كان اخي يعترض طريقي وامام مرآى من الناس استرد البندقية بعصبية وصفعني ، فقلت لابأس لا بأس، فالشابات الجميلات قد امتعن ناظرهن بقوامي وانا اعدو مطلقاً رصاصاتي في الهواء ، مما زادني تألقاً وفرحاً ” .
الهوامش :
(1) من كتاب ” داغستان بلدي ” , رسول حمزة تساداتسا .
(2) قرية تقع غرب القوش , كانت فيها رحى تابعة الى دير الربان هرمزد.
(3) قرية تقع غرب القوش ايضاً , هُجّر اهلها جوراً عام 1975 .
(4) وادي يقع غرب دير الربان هرمزد.
(5) أطلال قرية تاريخية في جنوب القوش.
صورة فوتوغرافية عمرها نصف قرن
المناسبة : حفلة زواج رحيم ديكو حيدو.
المكان : فوق سطح منزل حنا بدي في محلة التحتاني – القوش.
الخط الامامي من اليمين الى اليسار : ابراهيم جبو لاوو ، طبيب عين سفني ، القس افرام بدي ( مطران القاهرة فيما بعد) ، رحيم ديكو حيدو ، بطرس سليمان كَولا .
خط الوسط من اليمين الى اليسار : هرمز صادق خوبير ، عيسى موما بوداغ ، زورا بتوزا كَولا ، اسطيفو مالان .
الخط الاخير من اليمين الى اليسار : سعيد زورا جبو لاوو ، متي سليمان كتي خان ، سعيد حناني غزالة .
والواقفون على السطح المجاور : من اليسار متوكا حيدو ، يوسب _____ ,_____ .
nabeeldamman@hotmail.com