المجالس الشعبية في القوش

Khoranat alqosh26 يناير 2011232 مشاهدةآخر تحديث :
المجالس الشعبية في القوش

بقلم نبيل يونس دمان





يتجمع الناس خصوصا ً الكبار في السن في اماكن عديدة منها السوق ، المقاهي ، الخانات ، القيسيريات ( مجموعة دكاكين لها سقف مشترك ) ، امام البيوت ، وفي سفح الجبل . وكذا تفعل النساء بالجلوس امام البيوت فقط للتسامر والحديث او يضعن امامهن صواني الحنطة لابعاد الشوائب عنها ولتصبح جاهزة لعمل الخبز والمؤونة ، او يحيكن الملابس او الجواريب الصوفية ، او يغزلن الخيوط او يطرزن الاغطية او يصنعن اطباق الخبز واغطية الرأس للاطفال ( شفقة ) وتحفيات اخرى من سيقان الحنطة بعد صبغها بالالوان .
كان اشهر مجالس البلدة يقع في محلة اودو وقد اكتسب هذا الديوان اهمية من موقعه على طريق الكنيسة وفي اقدم احياء البلدة . ويبدأ الشيوخ بالتقاطر على المجلس في العصر فيتخذون اماكنهم مفترشين الارض المرصعة باحجار ملساء ، ويتناولون في احاديثهم المختلفة شؤون واخبار المنطقة وحتى في السياسة ! وعلى نياتهم ونمط تفكيرهم وبساطتهم . يقال ان النقاش كان يحتدم بينهم في ايام الحرب العالمية ، فقسم ينحاز الى الحلفاء وقسم الى المحور ، والاخير يصمم شاربه على طريقة ادولف هتلر !! وكان المرحوم عيسى كَوريال يجادل بضراوة مدافعا ً عن المسقوف ( الروس ) وحتى لو اضطره التلويح بالغليون ( قَلون ) المثبت على الدوام خلف رقبته في ذلك المجلس .
فيما عدى النقاشات وتناول بعضهم بالنصب والتعليق ، كانت روح النكتة والفكاهة قوية عندهم ، واشتهرت تعليقاتهم في انحاء البلدة ، وبات الناس يخشون العبور من امام ذلك المجلس خشية التعليق والنعوت التي يطلقونها بسرعة على العابر فتظل سمة متلاصقة به للابد ، وقد تسري على اولاده ايضا ً . وكان الكثير من الناس يغيرون طريق الكنيسة بآخر اطول لدرء تعليقاتهم ، والبعض الآخر قبل وصوله الى المجلس يبادرهم بالقول ” اطلقوا ما تشاؤون من نعوت امامي ، وقبل ان ادير وجهي ، ولن ازعل على احد ” .
كانت تلك القنطرة ( وهي غرفة طويلة مبنية فوق زقاق تقطعه في العرض وترتكز على جانبيه وبذا يصبح تحتها المعبر والمجلس في آن واحد ) ، كانت تلك الغرفة المسماة محليا ً ( كوﭽك ) لها شباكين على طرفي الشارع المؤدي الى الكنيسة ، ويا له من موقع ، حتى ان كثير من العازمين على اختيار شريكات حياتهم يجلسون امام ذلك الشباك مراقبين المرور ، وفي ارضية تلك الغرفة شباك ثالث مصنوع من قضبان حديدية ، وبذا تصبح تلك النافذة سقفا ً للقنطرة ايضا ً ، تحت تلك الغرفة او الممر كان الجلوس فيه مغريا ً وخصوصا ً في فصل الصيف فيسحب الهواء ويمرره لينعش المتخذين منه جلساتهم للاحاديث الممتعة من اصغر الجالسين عمرا ً الى اكبرهم .
يروي معاصري ذلك المجلس الحادثة التالية : عند مرورالعم ( دنخا ) امام مجلسهم وهو يعتمر قلبقه المخروطي ( كسيثه )، اوقف في منتصف القنطرة تماما ً للحديث معه ، فيما انتهز صبيان الفرصة فانزلوا حبلا ً في نهايته حديد معقوف ( جنكَال ) من شباك الكوجك ، حتى تعلق بخيط قلبق العم دنخا وشرعوا بسحب الحبل تدريجيا ً . فجاة شعر بنسمة هواء تعبر فوق رأسه فيما هو منهمك في الحديث ، فتفحص بسرعة قلبقه ليكتشف انه يرتفع في الهواء ! فيما المجلس يغرق بالضحك ، يبدأ العم دنخا باطلاق شتائمه على الاولاد وكذلك على آباءهم ويقول لهم تلك تعليماتكم ايها الاشرار …… مرة اخرى اخرى كان ( ججو ) يحمل إمرأة بدينة الى كراج السيارات لنقلها للعلاج في الموصل ، وقد لف حبلا ً على ظهرها وحملها مجتازا ً قنطرة محلة اودو ، وما ان وصل الى منتصفها والمجلس كعادته مفترش الارض صامتٌ ينتظر صيدا ً جديدا ً ، فما كان من احدهم الا ان اطلق نداءاً قويا ، يقول فيه : ان المرأة قد تقيأت على جسمه ( مامي ججو ، جيرَه ألّخ ) ، فانتفض الحمّال ملقيا ً حِمله العجيب على الارض ، والمجلس كعادته غرق في الضحك ، هنا استلم المجلس شتائم متنوعة من الرجل ، فلم يزعلوا عليه ، بل فرحوا ، واعتبروها كطلقات العرس ( تفِنكَ دَأوَه ) ، وتقدم بعضهم لمساعدته في حمل المسكينة ثانية ، على ظهر ذلك المهاجر ، الذي عاش بين ظهراني اهل البلدة في الثلاثينات .
هناك مهاجر آخر كان مؤجرا ً غرفة في محلة اودو نفسها ، ويقال عندما تعصف مصيبة باحد ابناء البلدة كأن يهاجم او يداهم اللصوص بيته فيطلق نداء الاستغاثة ، فيهب الناس مسرعين لمساعدته فيما يخرج ذلك المهاجر وزوجته رأسيهما من فتحة الباب ( بيسكره ) ليقولان باعلى صوتهما : إلحقوا بهم ، دمّروهم ( ﭼقولَه يِمَّي ) ، عندما فطن اهل البلدة الى مصدر ذلك الصوت رجعوا اليهما قائلين : لماذا لا تخرجوا معنا للمساعدة في ردع ( كذا ) فيجيبان بالقول نحن نشجعكم ونرفع حميتكم ، من داخل غرفتنا فقط ، اما خارجها فلا يشغل بالنا .
كان كل جليس في ذلك المجلس له تخصصه فمنهم الشمامسة المتمكنين باللغة الآرامية وبالمزامير الكنسية ، ومنهم ناقلي اخبار العشائر المجاورة ، من الاكراد والايزيديين والاشوريين ، ومنهم من يجيد التندر والتفكه مثل منصور حنّونا ( دلّه ) ، وقسم رواة قصص ( حكاياتي ) مثل (توما قاتي ) الاعمى ، حيث قسم من حكاياته اكتسبها ، من رحلاته المتكررة الى بغداد ، والجميع يصغي اليه بانتباه وشوق ، وهو يرويها باسلوب جذاب سلس ، تستمر كل حكاية عدة ايام وكانت لازمته قبل ان يبدأ بالقول ( مرو شمّد آلها ) اي قولو باسم الله . هناك شخص في ذلك المجلس موهبته تكمن في تحديد الوقت ، وذلك بالنظر الى الشمس وتحديد الزمان بدقة غالبا ً ، كأن يقول ” باقٍ خمسة دقائق لناقوس الرمش ” وفعلا ً يحصل ذلك واسم الشخص كان ( نونو شاجا ) ويجلس ايضا ً ﭼاكا حنونا الاعمى ( اصبح ضريرا ً في سني الحرب العالمية الاولى ، حيث سكب زيت مغلي في عينيه اثناء تجنيده قسرا ًقسريا ً في تركيا ) ، لقد كان ﭼاكا يروي الكثير من القصص والمشاهدات من بلاد تركيا ، الغرائب والاهوال والمآسي التي رآها بام عينيه .
هناك مجالس اخرى في البلدة عدا التي اسهبنا الحديث عنها مثل : رِش كوزَه ، فوق الصخور ( رِش كافِه ) ، وعند تجمعات مياه الامطار ( خَبراثَه ) في اطراف البلدة حيث يفترش المجلس ارضا ً خضراء خصوصا ً في فصل الربيع ، او يجلسون في قيسيريات بالسوق ، والقيسيرية مبنى من عدة غرف مسقفة ، حيث يضرمون النار في وسطها ايام الشتاء القارس ويتحلقون حولها ، ومن دخانها ودخان سكائرهم تكاد لا تميز الجالسين وبعضهه يلثم وجههه بيشماغيه اتقاءا ً من البرد ، هناك يقضون ساعات طويلة من نهارهم في الاحاديث الشيقة المختلفة .
كان البعض يتخذ مجلسه في احد الخانات ، وهو يراقب الداخل اليها والخارج منها وكذلك البضائع والمحاصيل التي تصل اليها من القرى المجاورة . قسم منهم ينتظر وصول التبوغ بانواهها المختلفة وافخرها عندهم تلك القادمة من جبل كَاره ، او ينتظرون وصول الزبيب ليصنعوا منه الكحول المحلي ( عرق ) الشهير ، وتسمع صيحات صاحب الخان او اجيره بالاعلان عن وصول الزبيب الاحمر او الاسود او ( بجارَه ) ، وكان ( مامي شابيرا ) يذرع السوق مناديا ً ” زبيب ذلك الشيء … ” ( يبيشِ دئي خريتَه ) وذلك الشيء مقصود به العرق ، حتى لا تصل تلك الكلمة الى آذان الحكومة ! ولكون صنعه غير مسموح ، ورغم ذلك وفي كل الازمنة يصنع هناك للاستهلاك المحلي فقط .
في باب احد الخانات كان يجلس بوابا ً أعمى اسمه (ججو ) حيث عمله قبض مبالغ عن الاحمال التي تدخل الخان ، وحين يحاول البعض خداعه بالادعاء ان عددها اقل ، فانه يصر على العدد المضبوط وتبين انه يحسب عدد الدواب او البغال الداخلة على صوت وقع اقدامها ! . لاتنتهي حكايات مجالس البلدة فيما نقلناه باقتضاب ، ويظل هذا الباب المثير مفتوحا للمزيد من الكتابات التراثية الشيقة .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل!