اذا كانت مصابيح النور قد دخلت متأخرة الى القوش فقد سبقتها في دخولها مصابيح العلم والادب والمعرفة بقرون عديدة .. ولانجري متى كانت الامية متفشية فيها ؟ لعلها كانت محصنة من هذا المرض منذ القدم بسبب كهنتها وشمامستها وشعرائها وكتابها .. او بسبب قربها من نينوى حاضرة الامبراطورية الاشورية وكونها مزار الاههم الكبير (ايل قاشا) .وتاكيدا على قدسية مكانتها شد اليها الرحال القديس والعالم مار ميخا النوهدري عام (414 م) بعد أن أوحى اليه وهو متنسكا في صحراء سيناء ليذهب الى القوش قاطعا مئات الاميال وفي تلك الازمان السحيثة ليؤسس مدرسة كانت بمثابة جامعة في عصره تخرج على يديه عشرات الكتاب والادباء والعلماء وصار شعاع فكره وتضحيته وقدسيته ينتقل من جيل الى جيل والى يومنا هذا . ولنفس السبب . وضع ربان هرمزد الحجر الاساس لديره قبل ألف ونيف من السنين في جبل القوش ليصبح مأوى ومدرسة لمئات من الرهبان اللذين كرسوا حياتهم للحياة المثالية السامية وبرز منهم العشرات من الكتاب والشعراء والخطاطين والرسامين والنحاتين تركوا بصماتهم خالدات رغم عبث الزمن وشروره . ولنفس السبب ايضا ومكملا لما جاء أصبحت القوش مقر الكرسي البطريركي للكنيسة النسطورية . زهاء ثلاثة قرون (من 1504- الى 1804) أذا اصبحت بحكم مركزها الديني تعج بالرهبان والقساوسه والمطارين والشمامسة . يفد اليها الناس من كافة اقطار المشرق من المسيحين واليهود الذين كانوا يزورون ضريح النبي ناحوم الالقوشي ويقومون بمراسيم الزيارة مرتان في السنة وتستمر لعدة أيام . لذا نشطت فيها التجارة والحرفة (كالنجارة و الحدادة والحياكة ) والزراعة وبحكم كل ماولاد من اسباب دينية واجتماعية واقتصادية تحتم على البلدة ان تزدهر ثقافيا وأدبيا وعلميا لتلبية متطلبات الكنيسة وطقوسها وشعائرها المتنوعة والكثيرة على مدار السنة . ولتلبية شؤونها التجارية وما يرافق ذالك من معاملات وسجلات وكانت اللغة السريانية وكتابتها السلسة خير أداة لكل ذالك . ولم تكون المرأة بعيدة عن كل ذالك لان عليها هي الاخرى أن تشارك في الصلاة والشعائر الدينية . فكان عليها أن تكتب وتحفظ وترتل ولا يسعني هنا الا ان اسجل ذكريات والدتي الجليلة وهي في الخامسة والثمانين من عمرها وهي لا زالت ترتل وتنشد جميع ما تعلمته في مدرسة الراهبات في ألقوش في بداية القرن العشرين واناشيدها وفعاليتها في التراتيل والتمثيل (كوميدية) . ليس في اللغة السريانية فحسب بل باالعربية والفرنسية تتذكرها كلها مع ذكر اسماء كثير من الطالبات كن معها والراهبات ومؤلف وملحن تلك الاناشيد وسناتي على ذكرهم . والدتي الفاضلة أسمها الكامل : أنو جبو بندق قس ميخائيل يوحانا من باز القاطنين في ألقوش منذو مئات السنين. مواليد 1920 م سألتها من كانت مديرتكم ؟ قألت في البداية كانت (مامير ) فرنسية . وبعدها اصبحت الماسير (ماري جوزيف ) وكانت فاضلة تحبنا ونحبها كثيرا . هل تتذكرين أسم الراهبات اللائي ساهمن في تعليمكن؟ قالت نعم (ثم مسحة دمعة كانت بمثابة ديمة ماطرة من عيونها الزرقاء)
1- ماسير (كليلا)
2- ماسير (مرتا)
3- ماسير (روزا)
لاأدري أيحق لي أن اعيد ذكريات طفولتكي امي؟ وأثير في نفسك الحزن والالم وأنت أسيرة الشيخوخة ؟ اريد ان اعرف زميلاتك من الطالبات في تلك الايام من العشرينات …… قالت أمي وهي تتمايل وتفرك بيدها حسرة
1- ودي ممو حكيم (زوجة ايليا ايشوع بانو )
2- حبوبا بتيكا بزني
3 صرو كوري حجي
4- حبي سليمان أسحق حميكاه
5- حبي ميخا عنطون
6- هدية صادق كلو
7- ريجو ميخا وكيلا
8- أسوما كلو أبونا
9- سلمى توما قينايا
10- حبي يوسف (زوجة يونس يعقوب قيا)
قلت لها كفى هذا يكفي فقد تعبت . أمي ماذا منتم تقرأون قالت اللغة السريانية والعرابية وبعض الاحاديث وتمثيليات باللغة الفرنسية : مثلا : قمنا بكوميدية (تمثيلية) . من المشاركات ؟ قالت :
1- أنا (أنو جبو) بدور فرنسية)
2- (حبي سليمان أسحق حميكا) بدور القوشية
3 (مرو كوري حجي ) بدور صينية
4- (حبي يوسف ) بدور ملاك
5- (سلمى توما قينايا) بدور مريم العذراء
قلت لها أمي هل تستطيعين أن تتذكري دورك في تلك التمثيلية ؟ هزت أمي رأسها المليى بالذكريات الجميلة وقالت جميعها ………… حتى أدوار زميلاتي لازلت أحفظها ولن انسى حرف واحد حتى الموت……
قالت فديتها : تبدا التمثيلية (كوميدية) كما تسميها وباللغة العربية
1- حبي بدور القوشية : قد خلصت من بلايا هذه الحياة قد تعذبت كثيرا في مرضي ولكن ميتة مقدسة خلصتني من العذاب وعن قريب سوف أدان ياملاك الحارس أطلب من مريم العذراء ان تات الى معونتي في هذه الدينونة المخيفة .
2 – (أنو جبو بدور الفرنسية) تقول: ما هذا ؟ هل يوجد قتال في مقر الاموات ؟ كنت أظن هذا المقر للهدوء والسكينة . وأين هي مريم العذراء ؟ كم أشتاق أن أراها !
2- (مرو حجي بدور الصينية) تقول : عن قريب سوف تريها . انت أيضا تشتاقين أن تريها ؟
3- أنو جبو (فرنسية تقول :- نعم ورجائي اكيد كنت مصابة بمرض ثقيل منذ سنين قد قطعوا الحكماء رجاءهم مني قد بعثوني الى مدينة لورد (مدينة في فرنسا ظهرت فيها العذراء للقديسة برنادت عام 1858 وأصبحت مزار معروفا حتى أنال شفاء عجيبا من مريم العذراء
40 مرو حجي (الصينية) :- من هي لورد ؟ في لغتنا يعني عنكبوت
5- امو جبو (بدور فرنسية) تقول بعد ان تهزها بقوة : من أين انتي تجهلين اسم لورد المشهور في العالم ؟ قد عرفتك من عيونك الطوال من شعرك بانك صينية وفي بلاد الصين يقتلون المسيحين قلت : كفى هذا يأأمي أستريحي ولننتقل الى موضوع أخر: هل كنتم تقراون اناشيد وتراتيل ؟ قالت : أه بني كثيرا . ولازلت أحفظها جميعا بالعربية والسريانية والفرنسية قلت من كان يؤلفها ويلحنها ؟
قالت : المرحوم والاستاذ الفاضل القس فرنسيس حداد وكان يعزف لنا على الة (الاورغن) وكان يحبنا كثيرا وأنتخب بعض الطالبات منهنى (أنو جبو) 2 (مرو حجي) 3 (حبي ميخا) وكان يضع على طاولته جمجمة انسان وكنا نفزع منها . ولما سألناه : أبونا لماذا تضع جمجمة أمامك على الطاولة ؟ كان يجيب لكي نعرف حقيقة أنفسنا يابنات !ثم قالت أمي كنا ننشد ونرتل بمناسبات كثيرة وبخاصة عندما كان يزورنا البطريرك عمانوئيل الثاني . كان القس فرنسيس حداد يقف أمامها وكنا ننشد : باللغة العربية وراحت أمي تنشد بصوت عذب ولحن شجي
أشرقت الشمس وقد ولى الظلام هاربا
فالشكر لله الاوح شكرا عظيما واجبا
مأحسن النور البهي فيه أجول عاملا
من كل قلبي اشتهي ان لايكون زائلا
الله قد أجارني من كل شي في الظلام
شكرا له قد صانني شكرا له على الدوام
وقالت أمي عند قدوم البطريرك مار عمانوئيل الثاني الى القوش عام 1928 أنشد أمامه نشيد باللغة السريانية من تأليف القس فرنسيس حداد (بشينا ثيلخ بابا) وراحت امي تنشد وعيونها تغرورق بالدموع
1- بشينا ثيلخ بابا بشلاما رش أينن
مشتاقوثا دلبا أديو كملا لكيبن
2- وردا أيوت ريخا بكنثا دماثا بقخلخ
بشوبرا ديوخ مشويا مليالخ ومسقلالخ
3- يأكوخوا بهورا قدحلي بعدن صيرا
قدحل ألن بيرا طردلي لخوشكا كميرا
4- بشط يمينخ بابا من يعقو لاسراي
مبهر لبناثخ من بوركاثخ مشوي
5- شوهارا داتن شمشا مشدراه من لايل
سوبرا وسقلا دماثا مار عمانوئيل
6- لايثيثخ كم جوري أني بناثخ زوري
صبي صبي كأوري يالي وانشي وكوري
7- ياشيفانا طاوا مليا مبسيموثا
لاناشت أث ماثا كو ديخ صلاواثا
بوركاثخ يابابا هاوي شورا طالن
صلاواثخ ياقديشا من كل دركي مخلصالن
ثم تقول امي العزيزة (أنو ) وعندما زارنا أيضا مار عمانوئيل ثانية أنشدنا أمامه وهو يمرر يده الكريمة فوقنا ويقول : لوطفت العالم كله لا اشعر براحة الاهنا بينكم في القوش رومية الثانية … فأنشدنا له ومعنا القس العظيم فرنسيس حداد وباللغة السريانية :
بشينا ثيلوخ راعيا عيرا ماثن القوش قوطوخ زورا
شد لاكطاوخ لاذي زيارا كم قدرتن بكل أيقارا
أذي يوما بد تخرخلي ماحلويا بدخازخلي
بأثي يوما بد مشاهخلي وهم بلكي بخيا بطليخلي
(هنا اجهشت أمي بالبكاء)
قبل منا شيفانا بئيا خليياثا دلبن صبايا
كليلخ بيشيخ يوما خرايا بروزخ بغذاذي كو شميا
وعندما أخذت امي التناول الاول سنة (1930) م وللمرة الثانية كانت في مقدمة الطالبات كثيرا في حفظ الاناشيد وفي الابداع وعذوبة قرأءتها . فقلت لامي وقد أتعبتها كثيرا : نشيد واحد فقط ليبقى ذكرى خالدة عند أبناءكي فأنشدت بصوت خافت حزين . ورحت أسجل بسرعة كي لاتعيده ثانية وبالسريانية :
أودا شريرا موتولي لصيرا مثوهيثها
وون بحيارا كو حبخ مليا حليوثا
أيشوع ملكا شبيرا نبوءا دطاووثا
أوذل لبي قريرا بأيتنخ هل خرثا
ميخلتي بشلا بلبلي ويوما دمأئي دأيني
كياني هم شغشلا وخوشاوي كنيخي وكركخي
كويوثا دلبي قرملا وكماليالي مخلصاني
عاقا مني مرحقلا هوي سولاي وعوني
ياكياني دها تاما كزدت وكشفشت
دري أموت ديخ كو الها قط لاهرشت
كل كرهانا دحطاهي أزت وهويت وبيشت
كو بخرا دبرد الها خاي خاثي بلوشت
يالبي زورا بصوخ وروز وبش مر لبا رابا
قلت لامي فقط شي واحد بقى اللغة الفنرسية لم تنشدي اي شي ولو جملة جملتين كمثال فقط . ولذكرى فراحت أمي تنشد وبسرعة دون توقف دون أن استطيع ان التقط كلمة كي أسجلها ثم طلبت منها ان تقرا ببطى ورحت أسجل بعناء شديد . وهي تنشد باللغة الفرنسية
بور مو سينيا ركبوي جفوير جي سوي سيبتي جي مرديار
لانفوت شاريتاوي لاجي (مع اعتذاري لصعوبة المواصلة )
شكرا لامي العظيمة التي ورثت عنها الشاعرية وقوة الذاكرة والتي اسمعتني في طفولتي كل أقاصيص الكتاب المقدسه وعشرات الحكايات والامثال التي تناقلتها عن أبائها واجدادها شكرا لتك الروح الوثابة التي نفحتيها في كياني الذي ليس له قرار ولا سكون شكرا يأ أمي العزيزة .
الشاعر الفنان
لطيف بولا