محتويات الحوار:
المقدمة: لطيف ﭙـولا
المحور الاول: الجذور الاولى في القوش.
المحور الثاني: سعيد اسطيفانا والشيوعية.
المحور الثالث: من شيوعي ثائر الى عالم في الكهرباء.
المحور الرابع: العودة للوطن والعمل المهني.
المحور الخامس: سقوط الجبهة وهجرة الوطن.
المحور السادس: ما بعد التغيير عام 2003 والانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2014.
المحور السابع: القوش والمستقبل.
الخاتمة: لطيف ﭙـولا
ملحقات
المقدمة: لطيف ﭙـولا
رغم انشغالي ,ورغم التعب الذي يسببه لي هذا الانشغال الذي لا نهاية له , سررت ُ حينما اتصل بي المهندس المعماري الاستاذ عماد رمو بان ثمة محاورة مع الدكتور سعيد يوسف اسطيفانا اجراها الاستاذ الغيور عماد رمو نفسه مع المناضل المخضرم الدكتور سعيد . وكلفني بمراجعة المحاورة وكتابة مقدمة وخاتمة لها .. أجلت ُ كل المواعيد واعطيت اجازة لكل الاشغال,تفرغت وهيات ُ نفسي لسبر أغوار هذا المحيط والخوض في سفر هذا المناضل الذي نعرف عنه الكثير ,وقد عرفته القوش قبل غيرها, والموصل وجماهيرها ,وابناء الوطن عموما من جماهير الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية في داخل القطر وخارجه, ذلك لما للدكتور سعيد من تاريخ نضالي ,ودور بارز في الحركة الطلابية والسياسية, وتفوقه رغم كل ذلك في المجال الدراسي والعلمي ونشاطه في المنظمات الجماهيرية داخل الوطن وخارجه . وقد عرفت الدكتور سعيد عن كثب , ففي ايام طفولتنا في القوش وفي اوائل الخمسينيات من القرن العشرين كنا نسمع همسات بالكاد نلتقطها من افواه آبائنا وامهاتنا ,إخواننا واقاربنا ,حينما كانوا يتحدثون حذرين . همسات سياسية تخرج من الفم لتجد طريقها الى الاذن مباشرة دون ان تتسرب ولو كلمة واحدة ,خوفا من عملاء الانظمة الدكتاتورية والتي جعلت الناس يعتقدون , لكثرتهم , ان للحيطان آذان ! بسبب انتشار الجواسيس الواسع, حتى قيل في زمن الدكتاتورية ان لكل اثني عشر شخصا رقيب يتجسس عليهم …لذا كان يحسب حساب الكلمة وعواقبها قبل ان تخرج من الفم. وهذه هي سياسة كم الأفواه . ولكن مع هذا كانت الكلمات تخرج بسرعة البرق لتجد طريقها الى الاذن التي تنتظر ان تتلقى الخبر السياسي . اتذكر مرة وانا في العاشرة من عمري اثناء حرب 1956 م بين مصر من جهة, واسرائيل وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية ,كان والدي قد قدم من الموصل الى القوش , وهمس في أذن أمي وجدتي بانه كان قد سمع ان ( موسقوف ) اي روسيا او الاتحاد السوفيتي ستدخل الحرب بجانب مصر ضد اسرائيل وحلفائها . فأجاب جدي بصوت مرتفع وهو مستلقي على ظهره على السرير الخشبي : إذا قامت موسقوف ستهدم الدنيا! لان موسقوف تمتد من شروق الشمس حتى مغيبها !. فصاحت جدتي مرتعبة اخفض صوتك ! اخفض صوتك ! لا يسمعوك ! تريد أن تهجم بيتنا ؟! . وحاولتُ ان استفسر من امي معنى ذلك , الا ان امي نهرتني قائلة : رغم كوننا داخل الدار والأبواب مقفلة ,وليس في دارنا إلا نحن والعصافير …أن َّ للحيطان آذآن ..!!
وعندما كان يتحدث عمي وجدتي حول امور الدنيا والدين يلتفت يمينا ويسارا ثم يجدني اصغي الى ما يقوله بفضولية فيقول محذرا أياي: انظر الى كتابك! لا شأن لك بما نتحدث! وإّذا سمعتم شيئا إياكم ان تخبروا احدا من أصدقائكم ! لان للحيطان آذان !.
وفي تلك الفترة من منتصف الخميسنيات من القرن العشرين ايضا جاء والدي يوما وتحت جنح الظلام وهمس باذن جدتي : الشماس أپـرم عـمَّا مسجون في الموصل ! , معلقا في السقف لا اكل ولا شرب ! . كنت التقط خفية بعض الكلمات دون علم الوالد .فسمعته يذكر اسم الشماس أپـرم عمـّا .
وبعد ايام جاءت والدتي وسمعتها تقول لجدتي : سعيد ابن يوسف ابن اختي حبوبة ( وتقصد سعيد يوسف اسطيفانا , لان والده المرحوم يوسف كان ابن خالتنا حبوبة بنت ملى عمة والدتي ), وهو طالب يدرس في الموصل قد سجن !, لانه شيوعي !, وحرموا عليه حتى النور ! , ولم يسمحوا لاهله بإدخال الطعام اليه ..بالامس راحت امه ﯖـوزى ( والكلام لوالدتي ) ومعها قدر دولمة اخذها منها حرس السجن وفتشوها لـَفـَّة ً لـَفـَّة !.. حاولت ان افهم من امي سبب ذلك ولكن هيهات ..وفي سنت 1960 كان سعيد اسطيفانا رئيس منظمة اتحاد الطلبة في القوش .. وكنت حينها في الصف الاول المتوسط ,وفي شهر نيسان ,كنت قد رسمت منجلا ومطرقة شعار الشيوعية على كتابي الجوغرافية ,المادة التي كان يدرسها لنا المدرس مظفراليوسبكي من الموصل ,وبقخني على ذلك واراد معاقبتي بسبب ذلك .غادرت الصف وقررت عدم مواصلة الدراسة تلك السنة , جائني سعيد اسطيفانا واخرون من اتحاد الطلبة لاعادتي الى المدرسة الا انني ابيت …وفي سنة 1961 جاءنا سعيد اسطيفانا الى بيتنا في بغداد ليودعنا بعد حصوله على بعثة دراسية الى بريطانيا. فأقمنا له حفلة توديعية بهذه المناسبة .وكان اخي فاضل قد كتب اغنية شاركنا بغنائها وتسجيلها على بكرة مسجل صوتية ,اخذها معه الى بريطانيا. وقد اخبرنا بعد فترة بانه لا يزال يسمعها في الغربة ويتذكر تلك الحفلة التوديعية .وكانت الاغنية تتناول التغرب عن الوطن وكان في وقتها هذا الامر صعبا ومحزنا جدا .وبعد السقوط بالضبط في تشرين 2003 كان الدكتور سعيد يوسف اسطيفانا يجلس الى جانبي في قاعة اتحاد الشباب في القوش ,اذ كنا قد اقمنا مهرجانا تخللته قصائد واناشيد ومسرحيات وكان لي مساهمة كبيرة في ذلك المهرجان اذ قدمت فيه مسرحية ( ديوان الدجالين ) وقصيدة باللغة السريانية مع نشيد. ثم بدات زيارات الدكتور سعيد الى الوطن والى بلدته القوش تترى ,وكنت في كل مرة التقي معه ..ولكن هذه المرة , ومن خلال هذا الحوار , فتح قلبه للجميع وربما كنت اول الداخلين اليه لاتطلع بشغف الى هذا الارشيف الغني بالمعلومات النفيسة , والتي تمتد الى ستة عقود ونيف من تاريخ العراق الحديث المليء بالحوادث والكوارث والثورات والنضال المرير لشعبنا الأبي والذي كان للدكتور سعيد يوسف اسطيفانا دورا فعالا فيه كمناضل شيوعي صلب ومخلص لمبادئه ولشعبه ولوطنه, و كعقلية علمية وثابة اراد ان يساهم في بناء وطنه وخدمة شعبه ,الا ان الانظمة الدكتاتورية والشوفينية ابت الا ان تصفي مثل هذه العقول او تجعلهم خارج العملية السياسية وبعيدين عن الوطن ليتسنى لها تنفيذ ما اوكلت به من احتواء العناصر الفاسدة والجاهلة التي لا يهمها تدمير الوطن وقتل شعبه مقابل تحقيق مآربها الذاتية وتسليم زمام الامور بيدها ..فلنسبر عزيزي القاريء هذا السفر النضالي الذي وضعه امامنا الدكتور المناضل والوطني المخضرم سعيد يوسف اسطيفانا .,عسانا ان نثري بلآليء تجاربه الثرية ,والتي استدرها من عمق حياته وخصب ذكرياته المهندس المعماري الغيور الاستاذ عماد رمو ومن خلال هذه الاسئلة الذكية ,وهذا الحوار الذي ينساب كانسام حقول القوش اوقات الفجر ..
المحور الاول: الجذور الاولى في القوش.
ارحب بك في حوار مفتوح جديد ايها الاخ العزيز الدكتور سعيد اسطيفانا ,ويشرفني اللقاء بك من خلال هذه الوسيلة التي جمعتنا رغم البعد بيننا ,وأؤكد للقراء بانني لم التق شخصيا من قبل مع الاخ سعيد وذلك بسبب اوضاع العراق المريرة والتي اثرت على الكثيرين منا ,وعليه فانا سعيدُ اليوم لأنه خصص لي ولكم من وقته الكثير كي ينجز لنا هذا الحوار النادر فهو مقل في الظهور في الوسط الاعلامي.
دكتور سعيد, بلدتنا العزيزة القوش تفتخر بجميع عوائلها والتي اكثرها قدمت الى القوش من بلدات وقرى ومدن عديدة لاسباب وظروف تكاد تكون معروفة للجميع . القوش هي من اقدم عشرة مدن في العراق ,وهي شاهدة على حضارة اشور الرائعة حيث كانت خاصرة نينوى عاصمة الامبراطورية الاشورية, لذا فقد كان لها مكانة متميزة بين ابناء شعبنا المسيحي. عائلتكم الموقرة عائلة اسطيفانا تتسلسل من عائلة بطة وهي من بندوايا وحسب كتاب القوش عبر التاريخ. ما هو مخزونك التاريخي عن هذه العائلة الكبيرة؟ وهل لك ان تسرد لنا موجزا عن جذورك الاولى في مهد هذه العائلة؟ عن ابرز الشخصيات في هذه العائلة؟ عن ابائك واجدادك؟ عن زمن الطفولة في محلة سينا ,وخاصة بيتكم الكريم القريب من الجبل؟ كيف كانت تلك الايام؟ وما هي ابرز ما تتذكره عنها؟ انك شاهد لذكريات كثيرة واحداث تاريخية نجهلها نحن الان الاجيال التي جاءت بعدكم وهناك القلائل ممن يعطون الاهمية لهذه الذكريات الشخصية ولكنها وحسب اعتقادي جزء من الانسان نفسه.
الدكتور سعيد اسطيفانا
في البدء اعبر عن شكري العميق لكم لتوفير فرصة المشاركة في محوركم القيم وان اثمن جهودكم الكبيرة انت والاخرين في اعداد واخراج هذا المحور الثمين والغني في محتواه والذي يقدم خدمة لا تضاهى لالقوش الحبيبة ولمكانتها وتاريخها واجيالها الراهنة واللاحقة.
انا معكم بان القوشنا تفتخر بجميع عوائلها التي وفدتها عبر تاريخها والتي ستفدها مستقبلا من كافة مواقع واماكن تواجد شعبنا الكلداني السرياني الاشوري الواحد. كما انا معكم بان القوش الحبيبة موغلة في تاريخها العريق والقديم وهي بلا شك سليل حي لجميع حضارات بلاد النهرين من سومرية واكدية وبابلية واشورية وارامية وكلدانية الخ. كما ولها دور بالغ التأثير في نشر المسيحية وفي ثثبيت وادارة كنيسة المشرق الرسولية الجامعة وكذلك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية المنبثقة عنها. وفي المجال الوطني والسياسي فلبلدتنا دور بارز ومشهود خاصة منذ قيام كيان العراق الحالي. فلقد كان لغبطة البطريرك الراحل ابن القوش البار مار عمانوئيل تومكا دورا في مساعدة واسناد الملك فيصل الاول ملك العراق في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
ومنذ ثلاثينات القرن الماضي كان للعديد من ابناء القوش دورا مشهودا في الحركة اليسارية والماركسية وخاصة في صفوف الحزب الشيوعي العراقي منهم على سبيل المثال الراحل موسى ابونا والشماس الراحل ابرم عما والشهيد الياس كوهاري. ومن منا ومن ابناء العراق يمكن ان لا يتذكر الراحل البطل توما توماس وكذلك الراحل سليمان بوكا. حتى ان المؤرخ عزيز سباهي يذكر في مؤلفه الثمين “تأريخ الحزب الشيوعي العراقي” ان والدي يوسف سلمان يوسف “فهد” من ابناء القوش وقد غادراها قبل ولادة فهد مؤسس هذا الحزب العريق الذي رغم الدماء الغزيرة والقرابين الهائلة لا زال يناضل بثبات واخلاص من اجل سعادة وكرامة وتقدم الانسان العراقي وانعتاقه من الاستغلال والظلم والتمييز والعوز.
القوش عام 2013
بالنسبة لعائلتنا بيت اسطيفانا (رابط 1) وحسب ما سمعته من والدي واعمامي واخرين من جيلهم اننا كنا في بندوايا وكان جدي حنا يعمل ويفلح البستان التحتاني وانه جنى قسم من ثروته من بيع قشور الرمان المنتج من ذلك البستان الى الجيش العثماني الذي كان يستخدم قشور الرمان في دباغة الجلود المستعملة في انتاج احذية لعساكره. واتذكر ولحين ما غادرت القوش الى انكلترا عام 1961 ان العم داويذ كان يشغل طاحونة (رحى) (ارخل) مار ميخا (بجانب كرا د ستاثا). لا اعرف متى غادرت عائلتنا بنداوايا نهائيا.
لم اكن اعلم ان عائلة اسطيفانا تتسلسل من عائلة بطا. ما سمعته من الكبار من العائلة ان العم سليمان بطا جاء الى القوش هاربا من ظلم زوج امه التي بعد وفاة زوجها (ابو سليمان) تزوجت من رجل اخر وانتقلوا الى البصرة وسليمان كان لا يزال طفلا صغيرا. ومن هناك وبعد ان كبر هرب سليمان وهو لا يزال يافعا عائدا الى القوش وبحث عن ال اسطيفانا فالتقاه جد والدي (والد حنا) هرمز قائلا بانه من ال اسطيفانا وبانه هرب من ظلم زوج امه فقام الجد هرمز (الذي كان يعرف ب خالو) باحتضانه وتزويده ببعض من الاراضي والدواب للزراعة وكذلك بعض المواشي. كنا دائما نسمع ان ال بطا وال منصورا وال بتو قولا هم من نفس اصل ال اسطيفانا.
حسب شجرة العائلة التي اطلعت عليها كان هناك الجد اسطيفانا الاول بعده الجد عبو ثم اسطيفانا الثاني ثم اوراها ثم هرمز ثم جدي حنا فوالدي يوسف وانا الان لدي اولاد واحفاد. اذا انا اكون من الجيل الثامن في هذه الشجرة واذا حسبنا معدل 30 عام بين جيل واخر وانا الان قد تجاوزت ال 70 من عمري يكون اسطيفانا الاول قد تولد تقريبيا في الربع الاول او قبل منتصف القرن الثامن عشر. ليس لدي اية معلومات عن من كان قبل اسطيفانا الاول.
الجد هرمز عـُيـّن ,خلال العهد العثماني ,رئيسا لدهوك وبعدها رئيسا لالقوش. اتذكر جيدا الغرفة المسماة غرفة الرئاسة (اودا د رئيسوثا) في دار العم جبرائيل (والد بطرس) حيث سكنا فيها فترة من الزمن وانا لا زلت صغيرا. هذه الغرفة التاريخية دمرها النظام الدكتاتوري البائد مع غرف اخرى بالكامل انتقاما من نضال الشهيد البطل اونير ابن عمي بطرس.
ذكرياتي عن جدي حنا (بالمناسبة لقد سميت ابني الثاني المولود في عمان عام 1983 باسم جدي حنا) لا زالت طرية وان كان قد توفى وانا في السادسة من عمري. كان ياخذني معه الى البيدر ولا زلت اتذكر التقاط وجمع البيروختة معه من الحصاد المنقول الى البيدر واتذكر ايضا كوننا معه في خيم البربهار حيث كان ياخذ قطيع الغنم الى الدشت ليرعى وهناك نبقى اياما في الخيم وكانت جدتي ووالدتي واخريات يقومون بحلب الغنم وعمل اللبن والجبن الخ. صورته لا زالت في مخيلتي وهو جالس على الارض امام البخيرية (موقد نار الخشب مبني في الحائط بمستوى الارض مع مسرب للدخان خلال الحائط) في ما كنا نسميه اودا بـَرَيثا (الغرفة البرانية) ويعمل لاشعال النار وفي كثير من الاحيان كنت لا استطيع رؤية وجهه لكثرة الدخان والذي كان يسبب لنا كثيرا من السعال. لا زلت اتذكره جيدا جالسا على الارض في الغرفة البرانية يحيط به اعمامي والكبار الاخرين من العائلة يوجههم بما يتعلق بحراثة وزراعة اراضينا ورعاية الاغنام الخ. اتذكر عندما سافر الى بغداد بمعية والدي ثم عودته. لم يذكروا لنا السبب والذي كان لعلاج سرطان البلعوم فلا زالت طرية في ذهني كيف وبعد عودة جدي من بغداد جائنا بدوي لعلاجه عن طريق الكي حيث كان يحمي مسمارا حديديا في البخيريـَّة حد الاحمرار ويضعه داخل البلعوم حيث ورم السرطان كنا نسمع ونشم احتراق الاغشية. فارقنا جدي وهو في اوائل السبعينات من عمره كان يعرف بالشجاعة والاقدام والهمة والكرم وفي ذاكرة الكثيرين ما يدل على ذلك.
جدتي حبوبة من عائلة يلدكو كانت كثيرة الجد والعمل الدؤوب خاصة ونحن حينذاك كان لنا كثير من الاراضي والاغنام ولم يكن في حينها اية اليات , بالاضافة الى ذلك كان هنالك الكثير من الاولاد والبنات والكنات والاحفاد يسكنون في بيت واحد او متقاربين جدا مما يتطلب العمل المتواصل من الجميع وخاصة من جدتي. كانت جدتي كثيرة الصلاة والتردد على الكنيسة خاصة بعد وفاة جدي. توفيت جدتي وهي في السبعينات من عمرها حسب تقديري.
اما والدي فاتذكره صاحب دكان لبيع الاقمشة في سوق القوش. كان يذكر عن عمله مع متعهدي حفر الخنادق للجيش البريطاني في جبل داكن قبل بدء واثناء الحرب العالمية الثانية حيث توقع الانكليز هجوم الماني من سوريا التي كانت تحت سيطرة فرنسا فيشي الموالية لالمانيا. كنت اساعد والدي في الدكان. كان والدي يقرأ ويطلع ويتابع بخلاف اقرانه. بعد ذلك ,وخاصة بعد ثورة 1958 علمنا ان والدي كانت له صلات ما مع اليساريين والتقدمين في القوش والذين كانوا ربما على اتصال بالحزب الشيوعي.
بعد تخرجي من الدراسة الابتدائية في مدرسة مار ميخا ,ولعدم وجود متوسطة في القوش ,قام والدي بمشاركة حنا حنو في دكانه لبيع الاقمشة في الموصل وانتقلنا الى الموصل لاكمل الدراسة في مدارسها . بالمناسبة فان اخي سالم الذي اكمل الابتدائية قبلي بسنوات ذهب الى دهوك كما فعل الكثيرون من ابناء القوش في حينها لمواصلة الدراسة هنالك. في الموصل لم تجر الامور كما كان في بال والدي ولا حتى في بالي. فمن اواخر الصف الثاني المتوسط بدأتُ بالاتصال والانخراط في نشاط المعارضة وخاصة في اتحاد الطلبة والحزب الشيوعي مما ادى الى اعتقالي وفصلي من الدراسة. بعد فترة من خروجي من الاعتقال بحكم سجن مع وقف التنفيذ نتيجة صغر عمري. وبسبب من ملاحقات قوى الامن انتقلت الى بغداد وقام والدي بتصفية اعماله في الموصل وعاد بالعائلة الى القوش حيث اخذ ما كان يعرف ب شايخانة ساكي.
عانى والدي ووالدتي كثيرا من تبعات ما كان لي من نشاط سياسي في تلك المرحلة من عمري . وعندما كنت في بغداد, وبعد الانتفاضة التضامنية مع مصر ضد ما يعرف بالعدوان الثلاثي بعد تاميم قناة السويس, جرى اعتقال والدي بدلا عني ,كوني احد منظمني المظاهرات التضامنية في الموصل. في الحقيقة انا كنت قد تركت الموصل قبل فترة طويلة, لكن هكذا دفع والدي ثمن غباء وتعسف الاجهزة الامنية. معاناة ابي وامي لم تنته, فبعد المظاهرات التضامنية واعتقال والدي صدر ضدي حكم بالسجن غيابيا من قبل المجلس العرفي, فاصبحت في حالة تخفي في بغداد. ثم انتقلت الى كركوك حيث كان اخي سالم يعمل هناك. ووجدت عملا في مجال البناء مع شركة المانية تبني محطة كهرباء الدبس ونتيجة سوء شروط وظروف العمل قمت مع اخرين بتنظيم وتنفيذ عدة اضرابات عن العمل وحققنا مكاسب جيدة ونتيجة ذلك كان اكتشاف امري لاجهزة الامن وانا المحكوم غيابيا فجرى اعتقالي مرة اخرى مما اضاف الى معاناة والم ابي وامي. ساتناول تفاصيل نشاطاتي واعتقالاتي هذه وغيرها في المحاور الاخرى.
كانت فرحة والدي شديدة بنجاح ثورة 14 تموز 1958 م تموز. كنت في حينها وبعد اطلاق سراحي ثانية اعمل في الموصل وكذلك اخي سالم ,وجاء ابي لزيارتنا يوم 13 تموز وفي الصباح الباكر من 14 تموز وعند سماعنا للأخبار في الراديو أذيع البيان الاول للثورة ( كنا حينها أنا وابي , أما اخي سالم كان قد غادر للعمل مبكرا) وهذا كان الحدث الاهم الذي تبلغنا قبل يوم بتوقعه. خرجنا من البيت الى الشوارع في الموصل .والمدينة كانت لا زالت غير مكترثة .وشيئا فشيئا بدات بعض التحركات لاسناد الثورة. عاد ابي الى القوش وبدأ مع اخرين بالتبشير والدعوة لأسناد الثورة.
بقى والدي مساندا نشيطا للثورة ومساهما فيما كان الحزب الشيوعي يوجه ويقوم بهذا الخصوص فكان من المساهمين من رجال وشباب القوش في النزول الى الموصل للتصدي لحركة الشواف كما وساهم بنشاط في حركة انصار السلام التي شكلناها في القوش.
كان والدي يعاني ولسنوات من قرحة مزمنة في المعدة وفي ربيع عام 1960 ولدى سماعه بقدوم اطباء واخصائيين سوفيت سافر الى بغداد ومعه اختي حياة لمراجعة هؤلاء الاطباء. سمعنا ونحن في القوش بانه سيجري عملية لازالة القرحة وبما انني كنت معفيا من الامتحان (كنت في الصف الرابع العلمي) سافرت الى الموصل لغرض السفر الى بغداد لتفقد والدي الا انني لم استطع تكملة السفر من الموصل حيث ارسل مدير الثانوية الاستاذ منصور اودا خبرا بان الاعفاء لهذا العام قد الغي وعلي الرجوع والاعداد للامتحان فاضطررت للعودة الى القوش بعدها بيوم او يومين جائنا الخبر الكارثي المفجع بوفاة والدي في المستشفى على اثر مضاعفات بعد العملية. لا زالت هذه المضاعفات مجهولة لدينا. توفى والدي وهو في الستين من عمره وبهذه الخسارة البالغة تضاعفت معاناة العائلة ووالدتي بشكل خاص.
اما والدتي فدورها كام وربة بيت كان بحق اقل ما يقال عنه انه عملا بطوليا بامتياز, فدورها لم يكن انجاب وتربية الاطفال ومتاعبة امور عائلتنا الكبيرة فقط , بل تحملت المعاناة والمآسي بقلب كبير وروحية عالية فكانت تشد من عزيمتي عندما كانت تزورني في المعتقل لا بل قامت عدة مرات بايصال النشرات والرسائل الحزبية الينا, ولا اشك بانها قامت بنفس الدور عندما كانت تذهب لزيارة اخي عزت في نقرة السلمان والسجون الاخرى بعد كارثة شباط 1963 الاسود (في حينها كنت ُ في انكلترا في بعثة دراسية منذ ايلول 1961). وعليه كانت معاناة والدتي بالغة وعميقة خاصة بعد فقداننا لابي وبشكل اكبر بعد شباط الاسود, اذ كان أخي الاكبر سالم قد نجى باعجوبة من الاعتقال والتحق بالانصار اما بالنسبة لي قد تم فصلي من البعثة وسُحب جواز سفري (وساتناول كيفية اكمالي لدراستي في لندن وكيفية حصولي على البعثة الدراسية وما قبلها وما بعدها في محاور لاحقة) .اما بالنسبة لأخي نجيب فقد نجى هو الاخر من الاعتقال وتخفى في بغداد واما اخي الاصغر عزت تم اعتقاله ايضا وهو لا يزال شابا يافعا. فبقيت والدتي مع اخواتي السبعة الصغار يواجهن التهديد والحرمان والحصار اضافة الى همجية الحرس القومي والجحوش والاجهزة الامنية. تصدت والدتي لهذا الوضع المأساوي والكارثي بقلب كبير وروحية عالية إذ واصلت الاهتمام باخواتي وعملت على تشجيعهن على مواصلة الدراسة ومهدت لهن الطريق لأكمال المراحل الثانوية والجامعية جميعا وبتفوق, إضافة الى ذلك قامت بكامل واجبها واكثر نحو اخي سالم الملتحق بالانصار وبكثير من رفاقه. كما كانت وباستمرار تزور اخي عزت في نقرة السلمان والسجون الاخرى وتؤمن احتياجاته وترفع من معنوياته.
حقا كانت ام بطلة ومضحية مثالية. عانت امي في سنواتها الاخيرة من مشاكل في المفاصل مما جعلها شبه مقعدة لكن معاناتها الاشد كان فراقنا عنها ,بالنسبة لي هربت بسبب ملاحقة النظام الدكتاتوري عام 1978, واخي عزت لم يعد الى العراق بعد انهاء دراسته في براغ لنفس الاسباب ,اما اخي نجيب وعدد من اخواتي هجروا العراق بعد حرب الخليج . توفيت والدتي وقد ناهزت التسعين عاما.. وفي سنواتها الاخيرة تلقت عناية ورعاية جمة من كبرى اخواتي (حياة ) التي تستحق عظيم الشكر والتقدير على انسانيتها وتضحيتها.
و من ابعد ذكريات الطفولة , وقد تتراءى لي مثل الحلم مثل الحلم ,هي ذهابي مع بعض بنات عمي واخريات لزيارة عائلة اثورية هجرت قراها بسبب الاضطهاد وقد جعلت من مغارة طلشا (1)(فوق خبرنتا محلة سينا) مسكنا لها. ومن ذكرياتي في الطفولة سقوط محجل الكنيسة والفوضى التي رافقت ذلك ..واخرى مشابهة هي ذهابنا لمشاهدة مسرحية يوسب مصرايا( يوسف الصديق ) في حوش الكنيسة (يقال ان اسطيفان رئيس مثل فيها) وكذلك اتذكر ذهابنا الى الساحة امام القشلة القديم حيث كانت نساء كرديات ينوحن على قتلى من عائلة شيخ نوري (بيريفكان)وقد قيل في حينها ان قاتلهم هو عزيز ابن حجي ملو.
ذكريات اكثر وضوحا هي تلك التي كان بعض شباب يحرضون شباب محلة سينا ويحثونهم للتجمع وشن هجوم بعد مغيب الشمس على محلة اودو ..ومن ذكرياتي في طفولتي عندما قمت بالقفز بكامل ملابسي في حفرة في لحف الجبل تستعمل لجمع وتخمير الروث , تسمى محليا (سولتا), وكانت قد تجمدت مياهها بسبب برد الشتاء الشديد قمت بتلك المغامرة تلبية لتحدي من بعض بنات عمي ! وفعلا قفزت في تلك المياه القذرة المتجمدة ,وكسرت الجليد وغصت في الماء المتجمد ! وعلى اثرها نلت عقابا من والدي على حماقتي.
و اتذكر ايضا من تلك الايام الخوالي مقتل احد الرهبان في دشت القوش يقال انه كان في طريقه الى بندوايا ..ايضا اتذكر مقتل حنا حنينيا ليلا عندما كان نائما في البيدر( 10 آب 1945 ) . واتذكر ايضا عندما غدرت عصابة من قطاع الطرق بالمرحوم يوسف جردو رمو (كـﭙـو) , جد الاستاذ عماد داود رمو ,في طريق بنداوايا العلوي . واتذكر كيف تجمعنا في صمت في الموضع الذي تم فيه الغدر وفي مكان يدعى (رأولا دخيلانا ) ا وجمعنا الحجارة وغطينا بها بقايا دم المرحوم في ذلك المكان. كذلك اتذكر حادثة قرية الحسينية ومقتل احد البدو العرب على يد شاب القوشي ( حميد حناني ) الذي كان يحرث هنالك وبعد هذه الحادثة تركت العائلة الالقوشية الحسينية وعادت الى القوش على اثر ذلك وبعد فترة من هذه الحادثة قتل الشاب اليافع ياقو ابراهيم شمعون اثناء الليل عندما كان نائما فوق الكـﭙرة في كرمهم, وقيل في حينها انها عملية اخذ ثأر البدوي الذي قتل في الحسينية.
من ذكرياتي ايضا اليوم الاول من دوامي في مدرسة مارميخا الابتدائية. كان شعوري بمنتهى الغرابة حيث وضعوني مع الاخرين في تراصف في ساحة المدرسة وهذا كان امرا غيرمقبولا عندي فخرجت عن التراصف مما حدا باحد المعلمين (وكان المعلم يلدا من تلكيف) ان يمسكني ليعيدني الى التراصف فدفعته وبقيت في مكاني ثم شرع المعلم سليمان بوكا يلاطفني ويقنعني ان لابأس من بقائي خارج التراصف. طبعا في الايام اللاحقة اعتدت على التراصف والنظام وصرت دائما متقدما ومن الأوائل. أما موضع الصف الاول كان في داخل كنيسة مارميخا لقلة الغرف.
من معلمي مدرسة مارميخا والذين كان لهم جميعا دورا هاما في تعليمنا وتنشئتنا الاستاذ الياس مدالو مديرالمدرسة والاستاذ سليمان بوكا ,الاستاذ اسطيفان رئيس ,الاستاذ يلدا ,الاساتذ خضر وسالم من الموصل ,الاستاذ عابد كعكلا الاستاذ حنا صفار والاستاذ جرجيس زرا وكثيرين آخرين تفوتني اسمائهم الان. ولا انسى الشماس بولص قاشا الذي كان يدرسنا لغة السورث وكانت هذه اللغة رسميا مادة دراسية حتى الصف الرابع, بعدها توقفت ولاسباب لم نعرفها. كذلك كانت لنا مدرسة صيفية لتعليم السورث حضرتها لعدة سنوات ومن الذين درست على يدهم الشماس بولص قاشا والشماس رزقو.
عندما كنا في الصف الثالث تم افتتاح الابتدائية الثانية وانتقل بعض الطلاب للدوام فيها في بيت شيشا في المحلة التحتانية بالنسبة لي بقيت في مدرسة مار ميخا ,حيث انهيت المرحلة الابتدائية بتفوق جيد.
من ذكرياتي ايضا انشاء الطريق المعبد بين القوش وتلكيف. قبل ذلك كانت جميع طرق القوش الخارجية ترابية غالبا ما تتعرض للقطع وبشكل خاص ايام الشتاء ..كان اقرب طريق معبد هوالذي يربط بين الموصل ودهوك وللوصول اليه كان يلزم المشي او استخدام الدواب حتى باقاقا اوالفايدة . وغالبا ما كان يتعرض المسافرون الى السلب والاذى من قطاع الطرق. لذا كان تعبيد الطريق الى تلكيف ذا اهمية بالغة ليربط القوش بالموصل حيث الدوائرالرئيسية والمستشفى والاطباء والمدارس .
وللاهمية الاستراتيجية هذه فقد عمل وجهاء القوش ومنهم والدي وكذلك كافة الاهالي من اجل اقرار وتنفيذ هذا المشروع. وتطوع الجميع ومنهم نحن طلبة الابتدائية في نقل الحجارة الرصف وفرشها في الطريق لتمهيدها للتعبيد. لازلت اتذكر كيف كانوا ينقلوننا نحن الطلبة في اللوريات ايام الاحد الى موقع دياردس لتعبئة اللوريات باحجار خرائبها لتنقل الى الطريق الجديد المزمع تعبيده. بالمناسبة دياردس ( خرائب لبقايا دير ) تقع بين القوش وبيبان وبالقرب من ﯖرا وكانت قرية انشأها وسكنها بعض العوائل من بيت ابونا وعوائل اخرى بقيت على النسطرة ولم تقبل الكثلكة ايام البطريرك مار يوسـﭖ اودو بعد تحول القوش الى الكثلكة ايام البطريك يوحنان هرمز ابونا بعد الربع الاول من القرن التاسع عشر.
ابتهج اهالي القوش كثيرا بالطريق الجديد وكانوا مبهورين جدا لاستقامته ولمعانه وكان يبدو من اسطح محلة سينا كانه ينحرف شرقا, بينما من اسطح محلة قاشا كانه ينحرف غربا . مما اثار جدالات طريفة وودية بين اهالي المحلتين حول وجهة انحراف الطريق ولكن سرعان ما اعتاد الناس عليه واصبحوا لا يستغنون عنه في حياتهم اليومية.
هذه اهم الحوادث التي اتذكرها في هذا المحور. حاولت ان اعثر ومن دون جدوى على بعض صور مناسبة لهذا المحور. وبسبب كثرة تنقلي وهروبي احيانا افقدني اغلب الصور لهذه المرحلة .لدي بعض الصور واحدة منها حصلت عليها مؤخرا من صديق وقريب عزيز ارفقها مع الاخريات اضافة الى الصور (رابط1) التي تفضل بتوفيرها الاخ عماد عسى ان تكون مناسبة لهذا المحور.
المحور الثاني ينشر بعد اربعة ايام.