حوار مفتوح مع الدكتور سعيد اسطيفانا المحور الثاني: سعيد اسطيفانا والشيوعية عماد رمو

Khoranat alqosh20 فبراير 2014147 مشاهدةآخر تحديث :
حوار مفتوح مع الدكتور سعيد اسطيفانا المحور الثاني: سعيد اسطيفانا والشيوعية عماد رمو

محتويات الحوار:
المقدمة: لطيف ﭙـولا
المحور الاول: الجذور الاولى في القوش.
المحور الثاني: سعيد اسطيفانا والشيوعية.
المحور الثالث: من شيوعي ثائر الى عالم في الكهرباء.
المحور الرابع: العودة للوطن والعمل المهني.
المحور الخامس: سقوط الجبهة وهجرة الوطن.
المحور السادس: ما بعد التغيير عام 2003 والانتخابات البرلمانية المقبلة عام 2014.
المحور السابع: القوش والمستقبل.
الخاتمة: لطيف ﭙـولا
ملحقات
للاطلاع على المقدمة والمحور الاول انقرالرابط التالي:
http://www.khoranat-alqosh.com/vb/sh…ad.php?t=39582

المحور الثاني: سعيد اسطيفانا والشيوعية
من الوجوه البارزة والتي لعبت دورا كبيرا في نشر افكار الحزب الشيوعي في الوطن والقوش خاصة هو سعيد اسطيفانا. عائلة اسطيفانا كانت نشطة جدا في سجلات وتاريخ هذا الحزب. يقول الاستاذ صبري اسطيفانا في حواره مع الاخ منذر والذي نشر على موقع القوش نت: نشأت في زمن وبيئة وكثير من الشباب اقراني في تلك الفترة كان المد الثوري والوطني مستعرا في العراق حيث قيام ثورة 14 تموز الوطنية والتقدمية وكان المد الاحمر الشيوعي في قمته وكانت القوش بؤرة ثوريه في تلك الفترة لوجود كوادر كثيرة ومناضلة عملت في صفوف الحزب الشيوعي قسما منها منذ زمن القائد العظيم فهد الذي اسس الحزب الشيوعي العراقي في 31 اذار 1934 وكان لأولاد عمي نشاطات ملحوظة في تلك الفترة فكان لها تأثيرا كبيرا علي ولذلك اقول ان المبادئ الماركسية والشيوعيه اصبحت تجري في عروقنا منذ نعومة اظفاري وعملت في اتحاد الطلبة العام وانا في المتوسطة وبعدها انتميت الى الحزب الشيوعي وكان حينها الحزب المناضل والمدافع عن حقوق الطبقات الكادحة والفقيرة والاقليات القومية وقد تعلمنا في الحزب الصدق والامانة والثقافه الديمقراطية والثورية والتضحيه لأنها كانت جزءا من مبادئه..
من خلال كلمات ابن عمكم الاستاذ صبري سطيفانا يتجلى لنا جميعا بانه كان لك ولإخوتك التاثير الكبير على فكر الشباب الالقوشي حيث قمتم بنشر الوعي الثقافي اليساري والذي كان في ذروته وحسب مداخلة الاستاذ صبري. هل من الممكن ان تذكر لنا عن ذكرياتكم لتلك الايام؟ لماذا توجهت هذه العائلة الى الفكر اليساري الشيوعي رغم ان اكثر عوائل القوش فلاحية؟ كيف دخلت الافكار الشيوعية وبهذه القوة الى قلوب الكثير من شباب القوش حينها؟ ما هي ذكرياتك الاولى لهذه النشاطات؟ كيف كانت البداية ودورك في الاتحاد العام لطلبة العراق وخاصة انك كنت رئيسه اثناء دراستك للثانوية؟ ما هي ابرز الاحداث حينها؟

المرحوم البطل توما توماس القائد الشيوعي المعروف ومن حوله ثلاثة شباب من عائلة اسطيفانا: على يساره الاستاذ صبري اسحق اسطيفانا وعلى يمينه المرحوم سالم يوسف اسطيفانا وخلفه الشهيد البطل اونير بطرس اسطيفانا ( الصورة من بداية السبعينات في القوش وخلفهم بناية دير حافظة الزروع)

الدكتور سعيد اسطيفانا:
لا بد لي قبل الدخول في المحور الثاني من ذكر الدور العظيم والمليئ بالتضحية الذي قام به الاخ نجيب من الاهتمام بوالدتي واخواتي خاصة بعد وفاة والدي وبشكل اكثر بعد كارثة شباط الاسود حيث انا كنت في انكلترا والاخ سالم التحق بالانصار والاخ عزت جرى اعتقاله وسجنه فصار عبئ العائلة على الاخ نجيب جنبا الى جنب والدتي بوجه الارهاب والتهديد بالاعتقال وبوجه همجية وشراسة الحرس القومي واعوانهم وبوجه الحصار والحرمان والمضايقة. في هذا الوضع الصعب جدا قام الاخ نجيب بواجب تصعب على الكلمات وصفه فهو كان مثل الاب ورب العائلة ومصدر رزقها في تلك الفترات العصيبة ولسنوات كثيرة بعدها. لهذا الدور الابوي والاخوي الكبير يستحق اخي نجيب جزيل تقديري واجلالي وعظيم شكري وامتناني.
اثمن عاليا واعتزكثيرا بالتقديرالذي يكنه نحوي شباب بلدتنا وغيرهم. كنت ولازلت على ايمان راسخ وقناعة تامة بان الذي امنت به وعملت من اجله بكل تجرد ومن دون كلل ومنذ بدايات خمسينات القرن الماضي فعلته كذلك الالاف المؤلفة من ابناء وبنات العراق من جيلي اومن الاجيال التي سبقتني اوالاجيال التي تلتنا ومنها الاجيال الراهنة ولاشك هذا ما سيفعله الكثيرمن الاجيال القادمة ايضا.
انها التنشئة العائلية والقيم الرفيعة التي رضعناها في طفولتنا وزرعتها العائلة فينا وعززتها ورسختها بيئة القوش الفريدة. انها قيم حب الخير والعمل من اجله, قيم حب وخدمة الاخرين قبل الذات, قيم عدم الخنوع للظلم ورفضه والتصدي له ومحاربته هذه القيم الانسانية السامية تفاعلت في داخلي (وكذاالحال مع الاخرين) مع ظروف حياتنا الصعبة وقساوة المعيشة والتمييزالذي كنا نسمع به ونلمسه احيانا اضافة الى انعدام اشبه بالتام للحريات بمختلف اشكالها. وبفعل من مستوى المعرفة الجيد نسبيا في بيتنا صرت ابحث في داخلي عن اسباب الحال غير المقبول وبشكل عام وعن السبيل اوالسبل لاي تغييرمهما كان. حالتي الذهنية والنفسية هذه تفاعلت وتناغمت مع امور ومجريات حولنا بشكل مباشر واخرى في المجتمع بشكل عام وفي العراق ككل مما ساحاول سرده ادناه بكل ما استطيع من تجرد وموضوعية.
كان اول شيئ اسمعه له علاقة بالسياسة في شتاء 1948 عندما عاد الى القوش طلاب يدرسون في بغداد منهم جارنا حبيب شدا وصرنا نسمع منهم عن مظاهرات تطالب بخبز وحرية الخ وان هناك قتلى وجرحى (طبعا هذه كانت الوثبة ضد معاهدة بورتسموث). كنت استغرب كيف هناك ناس بدون خبز ثم ما موضوع الحرية التي يحكى عنها. بعدها بمدة سالت والدي عن كتاب كان يقرأه ونحن في الدكان فقال انها الموسوعة فسألت المزيد فقال انه محاكمة جماعة يسمون شيوعين وانهم ما معناه ضد الحكومة فقلت مع نفسي لربما هم من عمل المظاهرات التي سمعنا عنها.
كان احيانا يتردد الى دكان والدي بعض المعلمين منهم سليمان بوكا ويتحدثون بمختلف الامور منها مايتعلق بشؤون البلدة مثل الزراعة وادخال التركتورات ومنها قضية البيادرالتي صادرتها الدولة واعتبرتها املاك اميرية (بالمناسبة البلدة رفضت هذا القرار ورفع وجهائها ومنهم والدي دعوى في المحاكم ومحاميهم كان عبدالله ليون من الموصل الا انهم خسروا الدعوة) كما كانوا ايضا يتكلمون بامور وقضايا عراقية لم افقهها في حينه. بالمناسبة الاستاذ الراحل سليمان ومعلمين اخرين فتحوا في تلك الفترة صفوف مسائية لمكافحة الامية وكان والدي يمتدحهم كثيرا على ذلك ويشجع الشباب للمشاركة والتسجيل فيها.
بعدها وفي عام 1952 قام مصدق (رئيس وزراءايران) بتأميم النفط وكتبت الصحف العراقية, التي كنت احضى بقرائتها احيانا, الكثيرعنها ثم قرأناعن انقلاب زاهدي واعتقال وسجن مصدق. كان هناك خيبة امل وحزن لدى الكثيرين حوالينا ومنهم والدي.
اتذكر وبعد انتقالنا الى الموصل مجيئ الشهيد الياس كوهاري الى بيتنا (وكان حين ذاك يعمل في نفط عين زالة) وخلال حديثه مع والدي فهمت ما معناه انهم مضربين عن العمل. وبعدها بايام جائنا وهوحزين فسأله والدي عن السبب فقال ان ستالين زعيم الطبقة العاملة العالمية قد توفى. هنا لابد ان اذكر ان شيوعي العالم ومنهم العراقيين كانوا يعظمون ويجلون ستالين فيماعرف في ما بعد بظاهرة عبادة الفرد. بعدها بفترة قصيرة سمعنا باعتقال الشهيد الياس الذي جرت محاكمته وسجنه لاحقا. اذا المطالبة بالحقوق والتصدي للظلم يتطلب موقف وعمل وتبعات مؤلمة لابد منها وهذا ما كان يجول في ذهني حول ذلك. بالمناسبة الشهيد الياس كوهاريِ (ابوطليعة) هو اشبيني اي حملني عند تعميدي في كنيسة ماركوركيس في القوش وكثيرا ماكانت والدتي وجدتي واخريات يرددن بعد اعتقالي واطلاق سراحي بانني سائرعلى خطى اشبيني الشهيد الياس.
بعد فترة قصيرة حدثني اخي سالم عن اتحاد الطلبة فاستحسنت ماسمعت واعتبرته منفذا لاساهم في عمل يسعى للخير والفائدة وتجسيد ماكان يتجمع ويتخمر في داخلي الخ. كان التشكيل الطلابي الذي انضممت اليه اشبه بخلية حزبية فكان لنا اسماء مستعارة وكل اربعة اوخمسة يكونون هيئة لها مسئول وتجتمع دوريا وترفع محاضراجتماع. اتذكركان للاتحاد نشرة سرية بخط اليد ببضع صفحات من الورق الخفيف وكنا نعيد نحن ايضا استنساخها على ورق خفيف وتوزيعها سريا على من نثق بهم كما كنا ندفع اشتراكات شهرية ضئيلة ونسعى لجمع تبرعات وكانت ضئيلة ايضا. ولم يدم الامر طويلا حتى انضممت الى تشكيل مشابه الا وهو خلية حزبية وصار لي اسم مستعار ثاني ولم يختلف العمل في الخلية الحزبية عنه في الخلية الطلابية وكنا ايضا نستلم جريدة الحزب (القاعدة) بخط اليد على ورق خفيف وبدورنا كنا نستنسخها على ورق مشابه ونوزعها سرا كما كنا ندفع اشتراكات ونجمع تبرعات الخ. اتذكر محاولاتنا لاحياء الذكرى الاولى لانتفاضة 1952 من دون نجاح نتيجة القمع السائد وامكانياتنا المحدودة.
في اواخر 1953 واوائل 1954 صرنا نلمس انفراج نسبي في مجال الحريات فاجيزت بعض الاحزاب مثلا الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب الجبهة الشعبية وكذلك صحف هذه الاحزاب. صرنا نتردد الى مقرالحزب الوطني الديمقراطي في شارع نينوى كدعم له وكذلك لقراءة جريدة الاهالي وغيرها كما وكنا نعقد, عندما تسنح الفرصة, بعض اجتماعاتنا هناك. في هذه الفترة ايضا قامت مبادرات جريئة من وجوه عمالية لشكيل نقابات عمالية منهم فخري بطرس, عادل سفر, عباس هبالة وآخرين كما واتذكر المساهمة في تجمع احتفالي شبابي في بستان على نهر دجلة شمال الموصل. وفي هذه الفترة قامت ايضا حركة انصار السلام وبعض الجمعيات ذات طابع تقدمي.
استعدادا لخوض الانتخابات المقررة صيف 1954 شكلت الاحزاب المعارضة المذكورة اعلاه جبهة انتخابية انضم اليها الحزب الشيوعي (الغيرمجازطبعا) تحت اسم ممثلي العمال والطلاب. عملنا حثيثا وصرنا نحشد ونحضر الاجتماعات العامة التي يعقدها مرشحيها منهم مثلا محمد حديد وذنون ايوب وآخرون واتذكر في احد اها محاولة الشيوعي عدنان جلميران القاء كلمة الا انه منع من ذلك (كان في حينها متخفيا في الموصل وكان مع جماعة راية الشغيلة المنشقة عن الحزب).
كانت النتائج الانتخابية جيدة لهذه الجبهة الانتخابية حيث فاز 11 من مرشحيها 4 او 5 في الموصل. لم يتحمل الحكم هذا الفوز المتواضع فاقدم رئيس الوزراءالمكلف نوري السعيد على حل البرلمان فورا بعد الجلسة الافتتاحية حيث كان قد خطط لادخال العراق في ماعرف فيما بعد بحلف بغداد واراد اسكات اي صوت معارض كما وقام بسحب اجازات الاحزاب وغلق صحفها. شدد ورفع الحزب من نشاطه ضد سياسة نوري السعيد ومنها ما يتعلق بالحلف المنوي الحاق العراق به فصرنا نوزع ونلصق البيانات التي غالبها بخط ايادينا ونخط الشعارات المعارضة على جدران الازقة والشوارع خاصة في الليل وبعد بضعة اشهر ونتيجة اعتراف احد الطلاب العاملين معي بعد استجوابه من قبل مدير المتوسطة جرى اعتقالي من قبل امن الموصل. بقيت في المعتقل حوالي ستة اشهر بعضها انفرادية. لم يجد التهديد والتحقيق وما رافقه من تعذيب (الذي اعتبره خفيفا بالمقارنة مع ما حصل ايام الحرس القومي وايام الطاغية صدام. وعند مداهمة البيت جاءت قوى من الامن ومعها امر موقع من الحاكم ومعها مختار المحلة) في اخذ اي معلومات مني. كانت الادلة ضدي دامغة فكثير من البيانات والشعارات المكتوبة كانت بخط يدي لذلك صدر قرار المحكمة بسجني سنتين الا انه وبطلب سريع من والدي لدى سلطات قضائية اعلى ونظرا لصغر سني اصبح القرار سنتين مع وقف التنفيذ.
خلال فترة الاعتقال التقيت بنشطاء كثيرين منهم الكادر الحزبي عبد القادر رءوف من اهالي السليمانية وكان متخفيا في الموصل وبالنقابي عادل سفر والنقابي عباس هبالة ومع عبد الرحمن القصاب (الذي كان في حينها مع جماعة وحدة النضال). وكان معنا ولكن بغرفة منفصلة عبيد الله ابن ملا مصطفى وابن عمه شيخ صادق ابن شيخ احمد كانا محكومين بالاشغال الشاقة وفي ارجلهم سلاسل حديدية انتقاما من الملا مصطفى. كان معهم شاب برزاني اسمه خالد ادخل السجن لغرض خدمتهما لا غير. كان الشيخ احمد يقوم بزيارتهما وكنت احزن كثيرا لمعاناة هذا الشيخ الجليل. كذلك كان يزورهما لقمان اخو عبيد الله. بعد سنين عديدة وفي اوائل السبعينات كنت من منظمي استقبال وفد رسمي جاء الى لندن في حملة لاسناد قرار تاميم النفط كان عبيد الله ( وزير دولة في حينها) احد اعضاء هذا الوفد الذي ضم ايضا نوري عبد الرزاق من الحزب الشيوعي وزيد حيدر (عضو القيادة القومية) ومحافظ دهوك (نسيت اسمه) وآخرين. تحدثت مع عبيد الله طويلا وتذكرنا سوية ايام السجن في معتقل الموصل.
اطلق سراحي بعد تحويل الحكم بالسجن وبسبب صغر سني الى وقف التنفيذ وسافرت الى القوش وبقيت فيها اشهر قليلة التقيت خلالها عدة مرات مع الشماس اﭙرم عما وكنت اتلقى منه ما يصله من نشريات واخبار. عدت الى الموصل وبدأت اشتغل مع اصدقاء متعاطفين معنا لهم ورش نجارة واعمال صباغة الدور وذلك لكسب دخل مهما كان وللابتعاد عن ملاحقات ومضايقات الامن. تواصل عملي وعلاقتي مع ماتبقى من الاتحاد والمنظمة وصرت اتابع العمل في عدد من المتوسطات والثانويات. شيئ هام حصل في الحزب في هذه الفترة. فمن نشرة داخلية اطلعنا على قرار ابعاد الرفيق( ص) من قيادة الحزب لفرديته وكذلك تحميله مسؤؤلية الاخطاء التي حصلت. وتبين لاحقا ان (ص ) هو حميد عثمان الذي استلم قيادة الحزب بعد هروبه من السجن وخلال فترة قيادته صدرت عدة بيانات من الحزب موقعة باسمه الشخصي.
نتيجة اشتداد ملاحقات الامن ومحاولة اعتقالي عدة مرات انتقلت الى بغداد (كما ذكرت سابقا قام والدي بعدها بتصفية عمله في الموصل وعاد بالعائلة الى القوش). هناك اتصلت بالحزب حسب الاتفاق قبل مغادرتي الموصل كما صرت اعمل في صباغة الدور وغير ذلك لتامين المعيشة على زهدها. في هذه الاثناء قام جمال عبد الناصر بعمل جبار الا وهو تاميم قناة السويس فثار غضب انكلترا وفرنسا مالكتا القناة الرئيستين وبعد اسابيع قامتا بالتعاون مع اسرائيل بشن عدوان عسكري على مصر بهدف احتلال واستعادة القناة. انطلقت المظاهرات التضامنية في مختلف البلدان. في العراق كان الحزب المبادر والسباق في تنظيم هكذا مظاهرات في المدارس والكليات وفي مختلف المدن. شخصيا ساهمت في العديد منها في بغداد وكنت الباديء الاول للمظاهرة التي انطلقت من مدخل سوق الصفافير في شارع الرشيد وسرت في مقدمتها حاملا اللافتة الرئيسية حتى تفرقنا امام صليات الرشاشات وهمجية الشرطة والامن بالقرب من عكَد النصارى. اعلنت الاحكام العرفية وشنت حملة اعتقالات واسعة. كما ذكرت سابقا اعتقل والدي بدلا عني كوني احد منظمي وقادة مظاهرات الموصل التي كنت قد غادرتها قبل شهور. بعدها قرات خبر صدور حكم غيابي بالسجن من قبل المجلس العرفي وكذلك مصادرة اموالي المنقولة وغير المنقولة. صرت اضحك مع نفسي عن اية اموال يتحدثون وانا بالكاد ادبر مأكلي اليومي. بعدها صار بقائي في بغداد صعب جدا فانتقلت الى كركوك.
في كركوك ارتبطت بالمنظمة هناك وعدة مرات قمت بنقل البريد الحزبي الى ومن بغداد كما وجدت عملا مع شركة المانية في مشروع محطة كهرباء الدبس وكما ذكرت في السابق وبعد ثلاثة اضرابات من اجل تحسين شروط واجورالعمل جرى اكتشاف امري واعتقالي من قبل ضابط امن انتقل الى كركوك, وهوالذي قام سابقا باعتقالي في الموصل. اعتقلت في الدبس وطلبوا مني فورا ان اخذهم الى بيتي . وبما ان محل سكننا انا واخي سالم كان يحوي على وثائق ومستمسكات ,وكان يتردد هناك بعض من قادة الحزب وخوفا من تعرض سالم لاعتقال ايضا قلت للمحققين باني اسكن هنا في موقع العمل في الدبس وفعلا كان لي هناك فراش بسيط وبعض الحاجيات القليلة التي لم يجدوا فيها شيئا. فأعاودوا التحقيق وسالونني : اين احل عندما اذهب الى كركوك ؟ بعد تفكير سريع قلت: نادرا ما اذهب الى كركوك , وعندما اروح هنالك اقضي ليلتي في مقهى احد المعارف. كانت هذه المقهى ل(هرمز مرو) يرتاده الكثير من ابناء القوش في كركوك. فطلبوا مني ان اخذهم اليها. كان غرضي من ذلك ان يشاهدني رواد المقهى وانا معتقل ويذهب احدهم لاخبار اخي سالم بذلك كي يتخذ الاحتياطات الازمة من تنظيف البيت وتحذير الاخرين بالابتعاد عنه. وفعلا هذا ما تم .فحالما دخلت المقهى وانا مقيد ومحاط بالشرطة قام العديد منهم وغادر المقهى ثم اوصلوا الخبر الى اخي سالم الذي قام وبسرعة باتخاذ ما يلزم اتخاذه . الا ان شيئا اخر حصل لم اكن اتوقعه فقد كان في المقهى (ﭼونا ابن عمي يونس) الذي فزع وتسمر في مكانه وبدا الخوف عليه بشكل واضح مما جلب انتباه الشرطة فسالوه ان كان يعرفني فقال انه ابن عمي فقرروا اصطحابه الى الامن وكذلك اصطحاب هرمز. وضعونا في غرف مختلفة والظاهر ان ابن عمي هو الذي ارشدهم الى البيت ولكن بعد فوات الاوان حيث لم يجدوا شئ رغم التفتيش الدقيق.
في اليوم التالي اطلق سراح ﭼونا وهرمز لعدم وجود اي علاقة لهما باي موضوع .اما انا فأجري معي تحقيق طويل حول الاضرابات والتي تم نشر تقارير مفصلة عنها في جريدة الحزب السرية اتحاد الشعب. لم يحصلوا على اي شيئ يربط بيني وبين الاضرابات, لا مني ولا من العمال اللذين حققوا معهم, لذا, ففي المحاكمة التي كانت بعد ثلاثة اشهر من اعتقالي قرر الحاكم تبرئتي من تنظيم الاضراب. لكنني بقيت معتقلا نظرا لوجود حكم غيابي بحقي من المجلس العرفي. بهذا الخصوص وبعد فترة قصيرة من اعتقالي راودتني فكرة الاستفادة من لجنة تشكلت في نقابة المحامين بعد رفع الاحكام العرفية لغرض الدفاع عن ومساعدة المعتقلين السياسيين. فقمت بكتابة رسالة تفصيلية عن الحكم ضدي بتنظيم مظاهرات في مدينة كنت بعيدا عنها بمئات الكيلومترات وذكرت فيها الاماكن التي اشتغلت فيها في بغداد بنفس الفترة التي يفترض انني نظمت مظاهرات الموصل . وذكرت لهم بانني الان في موقف كركوك. ثم طلبت من احد حراس الموقف, وهو شرطي كردي ابدى تعاطفا معي وذكر استعداده لمساعدتي, ان يضع رسالتي هذه في البريد. ويبدو انه فعل ذلك حيث حضر بعد مدة محامي وطلب مقابلتي قائلا بانه مرسل من نقابة المحامين. فكررت عليه تفاصيل القضية التي سجلها لديه وقال بانهم سيطلبون اعادة المحاكمة في محكمة مدنية (الاحكام العرفية كانت قد رفعت) لذا وبعد ايام من برائتي في قضية الاضرابات تم نقلي مخفورا الى الموصل حيث جرت اعادة المحاكمة وحضر المحامي قاسم المفتي من طرف النقابة ومعه افادة اللذين اشتغلت معهم في بغداد في الفترة المعنية وبعد مداخلات سريعة قرر الحاكم الغاء الحكم وغلق القضية والافراج عني. فخرجت من الموقف وبمعية والدي عدت الى القوش مرة اخرى.

جزء من محلة سينا وفيها يظهر تجمع بعض بيوت عوائل اسطيفانا
بقيت في القوش عدة شهور عملت خلالها مع والدي في الشايخانة واشغال عائلية اخرى وكنت ايضا التقى مع شباب البلدة ومع اللذين ياتون, من بغداد ومدن اخرى حيث يدرسون او يعملون, لزيارة اهاليهم او في اجازة. لاحظت بخلاف المرات السابقة انحسار الرهبة لديهم من لقاء معتقل سياسي اطلق سراحه حديثا , وكذلك ازدياد الرغبة لسماع اراء معارضة ومساندة كذا اراء ومواقف. عندها او فيما بعدها وحسب تخميني انخرط الكثير من هؤلاء وغيرهم في العمل السياسي سواء في الحزب الشيوعي ام بالقرب منه . وهنا لا ادعي كوني السبب في ذلك, لكنني اصف حالة تزايد رفض الواقع القائم والنزوع للتغيير. بعدها نزلت الى الموصل ووجدت عملا في قطاع البناء. في هذه الفترة حصلت امور مهمة منها حل جماعة راية الشغيلة وعودة اعضائها كافراد الى الحزب وكذا الحال بالنسبة لجماعة وحدة النضال وبذلك تحققت وحدة الشيوعيون وتعززت صفوفهم ومكانتهم والفضل في ذلك يعود, فيما عرفنا لاحقا, الى جهود وقيادة البطل الشهيد سلام عادل. والشيئ الاخر كان قيام جبهة الاتحاد الوطني بين الشيوعي والوطني الديمقراطي والاستقلال والبعث ومعها جبهة ثنائية بين الشيوعي والديمقراطي الكردي الذي اعترض الاخرون على دخوله في جبهة معهم. بعد هذه الانجازات الهامة صرنا نلمس حماس واستعداد اكبر لدى عامة الناس لتقبل افكار واراء معارضة وفي دعم واسناد كذا اراء ومواقف. كنا بين حين واخر نستلم من خلال التنظيم عن توقعات بحصول احداث في اشارة, الى ما عرفناه لاحقا, الى الجهود والمحاولات المتواصلة لحركة الضباط الاحرار, ذات العلاقة الاكيدة مع الحزب الشيوعي وكذلك الاحزاب الاخرى, للانقضاض على النظام واسقاطه.
الانقضاض الحاسم حصل في 14 تموز 1958 هنا وقبل يوم من ذلك وصلنا شفهيا اشعار عن توقع احداث هامة والاحتياط لها من دون اي تفاصيل. فعلا وكما فصلت سابقا استيقظنا صبيحة اليوم المشهود على البيان الاول للثورة. كما ذكرت سابقا كان والدي معنا في الموصل وبعد ساعات عاد الى القوش أم انا فبقيت في الموصل وبعد ساعات التقيت بالمسئول الحزبي واخرين وصرنا نتحرك سريعا للعمل مع التحركات العفوية الساندة للثورة والتي اخذت بالتوسع بشكل متسارع. ولايام واسابيع كان شغلنا الشاغل, وبقدر المستطاع وعدم خبرة سابقة, تنظيم وتوجيه تضامن واسناد الجماهير العفوي للجمهورية الوليدة. كما وصرنا نبذل جهودا مضنية لاستيعاب زخم الجماهير نحو الحزب ومنظماته والحركة الوطنية عامة. كما وتحركنا وبدون تاخير نحو اظهار اتحاد الطلبة ,ثم الشبيبة والمنظمات الاخرى للعلن وتنظيمها مع ما يلائم الوضع الجديد.
انتصرت الجمهورية لكن سرعان ما ظهرت في الافق غيوم داكنة زادت في تراكمها مع مر الايام وكان لها لاحقا تاثيرا مدمرا ليس فقط على العراق وشعبه وانما على كامل الشرق الاوسط وابعد من ذلك. تلك هي المواقف الخلافية المتطرفة والمتشددة التي صار يطرحها علنا وبقوة عبد السلام عارف بدعم اكثر تشددا من القومين ومن البعثيين وبتوجيه لا لبس فيه من ميشيل عفلق بضرورة تحقيق وحدة فورية مع الجمهورية العربية المتحدة. ما كان هذا الامر من ضمن برنامج جبهة الاتحاد الوطني ولا من ضمن برنامج الضباط الاحرار. لم تجد الجهود المتكررة لكل الخيرين ومنهم الحزب الشيوعي من ثني هؤلاء الوحدويون الفوريين من الايغال في مسعاهم الخطر جدا. فسرعان ما انهارت جبهة الاتحاد الوطني وتفتت حركة الضباط الاحرار. توغل الوحدويين الفوريون في مخططهم الشيطاني يساندهم بذلك جميع اعداء الثورة من بقايا النظام السابق والقوى الرجعية والاقطاعيين وشركات النفط والدول المحيطة بالعراق ومنها الجمهورية العربية المتحدة ( والتي قامت عام 1958 وانفرطت عام 1961 وكانت تضم مصر وسوريا) وجميع من هالهم توجه ثورة تموز وآفاقها التحررية . تجلى هذا التوغل في العديد من المؤامرات والحركات الانقلابية منها مؤامرة عبد السلام عارف ومؤامرة رشيد عالي وحركة الشواف ومحاولة اغتيال قاسم وغيرها. في الاخير ولاسباب لست في صددها الان تمكن هؤلاء من اغتيال الثورة فيما صار يعرف بشباط الاسود 1963 فكانت مذبحة دموية واسعة ومروعة. قتل واغتيل الالاف واعدم او مات تحت التعذيب الاف اخرى واعتقل وسجن عشرات الاف وتشرد وتعرض للحرمان والاضطهاد الاف مؤلفة. والانكى من ذلك ان شعبنا ووطنا والمنطقة بكاملها لا زالت تدفع عربون ذلك التآمر البشع من سيطرة الانظمة الدموية المتعاقبة ومن خلال اضطرابها وتمزقها واحترابها الداخلي وضياع ثرواتها ومستقبلها الخ.
سرعان ما انفضح زيف عرابو وقادة هذا التآمر الوحدوي الفوري فهم وحال توليهم مقاليد الامور بعد المجازر الرهيبة ليس فقط لم يسعوا الى اية وحدة بل قتلوا وعلى مر عقود ما كان قائما من توجه نحو التقارب والتعاون والتضامن بين دول وشعوب المنطقة وامتهنوا التآمر والتآلب واقتتال بعضهم البعض وحال منطقتنا الان يعكس هذه الحالة القاتلة بوضوح مرعب.
بعد اسابيع من انتصار الثورة انتقلت الى القوش لاعود الى مقاعد الدراسة ولكن ايضا لاتولى مسؤؤلية العمل هناك. اول ما خططت له هو تثبيت التنظيم وتوسيعه وكذلك تكوين منظمات علنية لاتحاد الطلبة وغير ذلك. ساعدني المد الجماهيري كثيرا وشيئا فشيئا صارت وجوه خيرة ومخلصة عديدة من مثقفين ووجهاء وشباب وطلاب ونساء ياتون وينتظمون في الحزب وليس فقط في القوش وانما في القرى المجاورة وبلدات سهل نينوى حيث توليت فيما بعد مسؤولية منظمات سهل نينوى وبضمنها الشيخان وبعشيقة. ولدى مغادرتي في بعثة عام 1961 كانت منظمتنا من المنظمات الراسخة والقوية وكان لها دورا مشهودا على مر السنين خاصة بعد شباط الاسود في رفد الحزب والحركة الانصارية بمناضلين اشداء وكوادر ومقاتلين انصار وغير ذلك.

الدكتور سعيد اسطيفانا في بداية الستينات
اولى المنظمات العلنية التي عملت على تكوينها وقيادتها كانت اتحاد الطلبة .التي ورغم تحفظات واعتراضات المدير الاستاذ منصور (وكان ذلك قبل اجازة الاتحاد من قبل الدولة) قد توسع وثبت. وقمنا بالعديد من النشاطات مثل الندوات والسفرات وغيرها وفي صيف احدى السنوات فتحنا نادي طلابي في المدرسة الكائنة في السوق( العزة الابتدائية ). بعد ذلك عملنا على انشاء اتحاد الشبيبة التي عملت فيها بنشاط حتى انه تم اختيار احد اعضائها وهو المعلم داويذ (كبو) يوسف رمو ليكون ضمن وفد شبيبة العراق الى مهرجان الشبيبة العالمي في فيينا عام 1960, الا ان السفر لم يتم بسبب من التغير السلبي في موقف عبد الكريم قاسم من مجمل العمل الجماهيري ومن الحزب الشيوعي ايضا. كما عملنا ايضا على انشاء نقابة عمال وكذلك جمعيات فلاحية في القوش وفي البلدات والقرى المجاورة. وانشئنا ايضا حركة انصار السلام وكذلك رابطة المرأة. كان نشاط الجميع لا يتوقف من اجل اقامة وتثبيت وتسيير هذه المنظمات بالاضافة الى المنظمة الحزبية من اجل توسيعها وتطوير ما يلزم من كادر لها.
الى جانب ذلك كنا معنيين جدا بصيانة الجمهورية والدفاع عنها والتي اخذت اشكال مثل جمع التواقيع وارسال البرقيات المساندة للجمهورية وقائدها والمساهمة في المهرجانات والتي كان احدها مهرجان السلام في الموصل في ربيع 1959. ذهبنا بعدة باصات الى ساحة الاحتفال في باب سنجار حيث الالاف من مختلف انحاء العراق. بعد نهاية المهرجان عاد الجميع الى القوش الا انني قررت البقاء ليوم واحد عند الاخ سالم. خلال عودتنا من المرجان مشيا تعرض المشاركين في المهرجان الى اعتداءات ورمي حجارة بشكل متزايد وعندما وصلنا الى شارع الفاروق اطلق الرصاص علينا وكنت ارى وانا في الزي الالقوشي بريق الرصاص ينطلق من جنبي يبدو انني كنت مستهدفا لهذا الزي المميز. بعدها بقليل سمعنا ان الشواف قائد موقع الموصل اعلن منع التجول. كانت ثمة فوضى عامة. ثم سمعنا ان الشواف قد اعلن التمرد, وانه ومع قادة عسكريين اخرين سيسقطون الجمهورية بقيادة عبد الكريم قاسم. بدوره القى عبد الكريم قاسم خطابا ناشد فيه ابناء الشعب في الزحف والقضاء على المؤامرة. صار هدفي الاول تامين الوصول الى القوش.. وفي صباح اليوم التالي خرجت مع اخي سالم وسرنا في شارع نينوى وكان هناك أناس اخرين ,وبالصدفة التقينا بعبد الرحمن القصاب ومعه الضابط الشهيد مهدي حميد واخرين .ولدى سؤالنا لهم عما يجب عمله ؟ قالوا بضرورة الدفاع عن الجمهورية وتلبية دعوة قاسم. بعد جهد جهيد حصلنا على سيارة ووصلنا بها الى القوش مساءا. كانت جماعتنا قد وضعوا سيطرة مسلحة قبل البلدة فاوقفوا السيارة وفرحوا كثيرا لوصولنا بسلام. وبلقاء سريع اتفقنا على ما يلزم للنزول الى الموصل في الصباح.
وابلغوني ايضا عن شيئ مقلق. في تلك الايام كان الاستاذ محسن توحلة (مفتش في مديرية تربية الموصل) يقوم بالتفتيش في القوش وبسبب الفوضى لم يستطع المغادرة وبقى ضيفا على الاستاذ الياس مدالو على ما اتذكر. وبسبب عداء قديم بين القوش وال توحلة سعى بعض الشباب لايقاع الاذى بهذا الضيف, وبشكل سريع وصلنا لهولاء الشباب وافهمناهم خطأ تفكيرهم وضرورة حماية واكرام الضيف. وفي اليوم التالي امنا سيارة مع بعض المسلحين منهم المعلم بطرس كيزو لايصال الاستاذ الى داره في الموصل وهذا ما تم ولدى وصولهم تلكيف حاول البعض الاعتداء على الاستاذ فتصدى لهم المرحوم بطرس ومن معه ومنعوهم من الوصول اليه او المساس بالضيف. لم ينس الاستاذ محسن هذا الموقف الاخلاقي السليم من قبل القوش وكان له مواقف مشرفة مع العديد من ابنائها في السنوات اللاحقة.
نزل بعض الرجال والشباب الى الموصل ونحن معهم بباصات وكل كان حاملا ما له من سلاح شخصي. وقبل وصولنا الى الموصل توقفنا وصعدنا الى اعلى تل قاينجو حيث كانت تعسكر وحدة عسكرية موالية لقاسم وتقوم باطلاق النار باتجاه المدينة وكان هناك ايضا الكثير من رجال البلدات الاخرى من عرب واكراد ويزيدية الخ. استفسرت من ضابط الوحدة عما يجب عمله فقال اريدكم الوصول هذه المنطقة مشيرا الى منطقة بعد نهير الخوصر والتاكد من عدم وجود مسلحين فيها. فعلا وبعد قليل انطلق الكثير ونحن بينهم وهبطنا التل وخضنا الخوصر ودخلنا بعض بيوت تلك المنطقة فلم نجد المسلحين ربما كانوا قد انسحبوا. وشيئا فشيئا دخل الكثيرون ونحن معهم في عمق مدينة الموصل . لم نلق اي مقاومة ولم نشاهد اي مسلحين لربما انسحبوا. انهارت الحركة وقتل الشواف ولكن بعد فوضى عارمة وتجاوزات غير مقبولة من قبل البعض الذي حاول استغلال الفرصة. شخصيا تصديت ومنعت ما كان يحصل بالقرب مني وفي احدى الحالات حاول احدهم اطلاق النار علي بسبب ايقافه من تجاوزه فتصدى له الاخرين.
في صيف 1959 انهيت والكثير من طلاب الصف المرحلة المتوسطة وصار الجميع يفكر في المرحلة التالية فهل نترك القوش لتكملة الدراسة. فتحركنا وارسلنا جماعة الى بغداد للسعي لتطوير المتوسطة الى ثانوية مما يلزم قرار من وزير التربية. في بغداد ذهبت الى مقر اتحاد الطلبة في الوزيرية وشرحت لهم الموضوع فقرروا مفاتحة الوزير وبعد ايام راجعنا الوزارة حيث التقينا بموظف كبير الذي سلمنا الامر الوزاري بتحويل متوسطة القوش الى ثانوية وبذلك اكمل جميعنا المرحلة الثانوية في القوش. كما التحق آخرون في ثانويتنا خاصة بعد تردي الوضع في الموصل بسبب الاعتداء والتهديد والخوف من الاعتقال او الاغتيال.
افتتاح المتوسطة في القوش بحد ذاته مؤشر على همة وعزيمة اهلها. فالحكومة لم تستجب لمطالبات الاهالي المتكررة فكان يغادر كل من ينهي الابدائية الى مدن اخرى لاكمال الدراسة. لذا قرر وجهاء البلدة ومنهم والدي على العمل لفتح متوسطة اهلية وشكلوا وفدا زار بغداد والمدن الاخرى وجمعوا تبرعات من ابناء القوش الذين يعملون في هذه المدن وكذلك من داخل القوش لتغطية رواتب المدرسين والتكاليف الاخرى وتبرعت الكنيسة بمبنى مار قرداغ لاستخدامه كمدرسة. بالمناسبة كان مار قرداغ آنذاك خارج البلدة تحيط به المزارع والكروم وحتى ان بعض الطلبة كانوا يستخدمون الدواب للوصول اليه خاصة ايام الشتاء الماطرة. هكذا فتح الصف الاول في العام الدراسي 1956-1957 في مار قرداغ. بعد سنة وافقت الحكومة على تحويلها الى متوسطة حكومية وفي العام الدراسي 1959-1960 استحصلنا الموافقة لتحويلها الى ثانوية ونظرا لعدم كفاية غرف مار قرداغ انتقلنا الى الدوام في بناية شيشا في المحلة التحتانية.
في صيف 1961 اجتزت وزاري الخامس ثانوي بتفوق (انذاك المرحلة الثانوية كانت تنتهي بالصف الخامس) وفي احد الايام جائني المرحوم خالي جرجيس فرحا يبلغني بان اسمي اذيع في الراديو كطالب بعثة الى انكلترا. كانت مفاجئة اثارت حيرتي كثيرا. في حينها كنت كمسؤولا على سهل نينوى واطراف الموصل وعضوا في اللجنة المحلية. وكان القرار ان اتفرغ للعمل الحزبي بعد انهاء الثانوية لذا ذهبت الى الموصل وشرحت الامر لمسؤول المحلية الذي بعد ايام قليلة اخبرني بضرورة قبول البعثة. فقلت اذا كان لا بد من السفر الى الخارج فانني افضل الذهاب بزمالة الى الاتحاد السوفييتي. فقال عليك بالبعثة الحكومية واترك مجال الزمالة للاخرين, ثم ان الحزب يهمه كثيرا نشاطنا في انكلترا. فصرت شبه مقتنع ,ولكن بدات افكر في العائلة ,كيف ساتركهم؟ وبعد تمحيص ,رايت انني وفي حالة عدم سفري ساتفرغ للعمل الحزبي, ولن اكون ذا فائدة للعائلة لا بل ساكون مصدر قلق وربما اسبب اذى لهم. فترجح قراري باتجاه قبول البعثة والسفر الى انكلترا. وبالفعل لو كنت قد بقيت في العراق ليس بامكاني تخمين ماذا يكون قد حل بي اثناء وفي اعقاب انقلاب شباط الاسود وتبعاته ومن شأن ذلك ايضا حرماني من تحصيلي الدراسي والاكاديمي وبنفس الوقت من القيام بالدور اللازم في اداء واجبي الوطني ومهماتي النضالية الاخرى على وجه اعتز به كثيرا.
في صباح يوم من الاشهر الاولى لعام 1961 (لا اتذكر الشهر ولكن الجو كان شتاءا) وحال دخولي المدرسة جائني الفراش (اعتقد كان صادق يلدكو) وقال انهم في الصباح الباكر ولدى فتحهم المدرسة وجدوا كومة منشورات مرمية في المدرسة تمجد بالثورة الكردية وقائدها ملا مصطفى . وانهم قاموا بجمعها وتسليمها للمدير. اثار الامر دهشتي فنحن وقتها لم نكن الى جانب هكذا امور. قلت في نفسي ربما الفاعلين هم بعض الطلبة اليزيديين الذين يداومون في القوش. وكان قسم منهم يؤيد علنا الحزب البارتي. وجدت الامر غريبا لماذا ترمى هكذا بيانات في المدرسة وليس في اي محل اخر. بعد دخولنا الصف جاء الفراش ليبلغني بانني مطلوب لدى المدير. ذهبت الى غرفة الاستاذ منصور الذي قال بانني وطلاب آخرين مطلوبين في المركز للتحقيق في موضوع البيانات هذه فقلت له اعتقتد انك تعرف اننا لسنا مع هكذا ثورة ولا علاقة لنا بهذه البيانات. قال ليس الامر بيدي وعليكم الذهاب. ارسلوا على بقية الطلاب تباعا وجلبوا من صفوفهم . وصرنا عشرة او اكثر اغلبنا من القوش وواحد يزيدي واخر من تلسقف, جميعنا محسوبين على الشيوعيين, ولم يكن بيينا احد محسوبا على الجهة التي كانت تدعو في حينها لهكذا ثورة. رحنا جميعنا مشيا الى القشلة فاودعونا الموقف بعدها بساعات (او صباح اليوم التالي لست متاكدا) حضر حاكم تحقيق من الموصل وكنت اول من حقق معه فقلت بشكل واضح اننا لا علاقة لنا بهذا الامر ,وانني كما موثق في الاضبارة لديك (كان معه اضبارة الامن الخاصة بي) في حزب يؤمن بان في الوضع الحالي يمكن تحقيق مطالب الشعب الكردي باعمال سلمية ومن دون رفع سلاح. طال التحقيق وصار يسالني عن امور اخرى لم اجبه عليها . وكررت ان لا علاقة لنا بهذه البيانات. نفس الشيئ قاله الاخرون في افاداتهم. بقينا ليلة اخرى في الموقف واطلق سراحنا في اليوم التالي بكفالة. موضوع هذه البيانات بقي غامضا ولم تدع اي جهة مسؤوليتها مما كان يدفع بي الظن الى ان الامن هو من قام بها كحجة لاعتقالنا وحتى للايقاع بيينا وبين بعض انصار البارت في القوش. ولا زلت اتذكر كلمات ابو خالد مامور المركز آنذاك ,عندما كنا نعمل كفالة البعثة في محكمة القوش, ما معناه (لقد نفذت يا سعيد والا لكانت قضية البيانات تودي جلدك للدباغ).
من الامور التي اود ذكرها ايضا هو ما ذكره لي الشماس زورا جبو لاوو ,الذي كنت التقيه احيانا, بان الرفيق يوسف سلمان فهد كان قد طلب منه ومن اخرين بالاعداد والتحضير لاصدار بيانات وجريدة للحزب بلغة السورث .وان الرفيق فهد كان يفكرايضا بتشكيل فرع للحزب خاص بالسورايي.. وان اعتقال الرفيق فهد والحملة الشعواء على الحزب وضعت حدا لذلك. وشيئا اخر لا زال عالقا في ذهني ما ذكره لي القس يوسف عبيا عندما التقيته صدفة في بيادر محلة سينا في ربيع عام 1960 بان المطران مار ايليا ابونا كان قد سعي لايجاد علاقة بين حركة مار شمعون في حكاري خلاال الحرب العالمية الاولى والبلاشفة في روسيا ,الا ان الامور تطورت باتجاهات اخرى ولم تنجح محاولاتهم تلك, ثم عبر عن قناعته باننا والاثوريين شعب واحد ويجب ان نعمل سوية.

بانوراما لبلدة القوش الحبيبة من الجبل وفيها تظهر بناية القشلة التي ارتبط اسمها بالظلم والاضطهاد

ملاحظة: المحور الثالث ينشر بعد اربعة ايام.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل!