المحور السابع: القوش والمستقبل.
لقد زُرت الوطن مرتين، اخرها كان الربيع الماضي. القوش بالنسبة لنا هي الوطن الصغير ولكننا جميعا ننتمي الى الوطن الكبير وهو العراق. لقد تغيرت القوش كثيرا، القوش القديمة وبيوت الاجداد اكثرها انهارت والازقة القديمة اصبحت مقفرة ولا يسكنها الا القليلون. لقد توسعت عمرانيا في اتجاهات كثيرة وتحطم الكثير من محيطها الطبيعي الجغرافي، البيادر ذُبحت وعيون الماء اُقفلت. اما اهلنا فهم على طيبتهم الاولى ولكن سياسيا تفرعوا الى احزاب كثيرة اما ثقافيا فقد انتشرت النوادي والجمعيات التي بدأت نشاطاتها تزدهر يوما بعد يوم. مهرجانات شعرية وندوات ثقافية ومحاضرات على انواع مختلفة. ولكن القوش اصابها نفس ما اصاب الوطن باكمله وهو داء التطرف القومي والديني وتركوا العلمانية جانبا وحتى هناك البعض من كان قد تربى في عش الشيوعية تجده الان عاد الى حضن الطائفية والدينية. ابناء شعبنا اصابهم داء الالقاب المزورة والشهادت المفتوحة ايضا وما يؤسف عليه هو ازدياد وتيرة الهجرة بين ابناء شعبنا ايضا رغم الهدوء الامني نسبيا. هناك اسباب كثيرة ورئيسية للهجرة ومنها انعدام الثقة بين المواطن والدولة. فساد اداري ومستقبل غامض يدعوا الكثيرين لترك بلد الاجداد والهجرة الى السراب.
اخي الدكتورسعيد: كيف تقرأ مستقبل بلداتنا وقرانا التي تتدحرج مثل الشاقول بين سندان الجنوب ومطرقة الشمال؟ لقد اصب البلد الكثير من التأخر بسبب هذه المعادلة الصعبة. لقد انحسرنا بين الجبل والسهل فلا نحن من الجبل ولا نحن من السهل!! لقد كان لالقوش دائما مركزا قويا وكبيرا في المنطقة مع هوية واضحة ولكنها الان فقدت هذا المركز لمدن اخرى. عندما كانت نوهدرا (دهوك) مدينة صغيرة في ثلاثينات القرن الماضي كانت القوش مركزا تجاريا وزراعيا وحرفيا مهما وخانات السوق القديم تشهد على ذلك. لقد اصاب ابناء بلدتي الان السطحية. السياسة هي مهمة دائما وتؤثر كثيرا في تقدم المدينة وكذلك فان الادارات الجيدة تصون المدينة من الضمور. كيف تقرأ مصير بلدتك العزيزة القوش؟ ما هي رسالتك الشخصية لابناء بلدتك العزيزة؟ كيف تحلل تدهور المدينة الى هذه الدرجة بحيث يتركها الكثيرون الى بلدان المغيب؟ ما هو تقييمك للشخصية الالقوشية حاليا من خلال متابعتك اخبار وكتابات بعض ابنائها؟ ماذا تتمنى لبلدتك الحبيبة القوش؟ كل مغترب يتمنى ان يعود الى تربة الاجداد يوما ما، هل تساورك هذه الامنية ايضا؟
الدكتور سعيد اسطيفانا
اخي عماد صحيح ما تقوله عن تغير القوش حيث التوسع العشوائي على حساب البيادر والاراضي الزراعية وعن اهمال لا بل خراب بيوتها وازقتها العريقة ذات الطابع والجمال الخاص الذي يعكس تاريخها الغني الذي نعتز ونفتخر به كثيرا عسى ان ينتبه القائمون على امورها حاليا الى هذا الامر ويبدأوا على اتخاذ ما يلزم وباستشارة معماريين وتراثيين ليس فقط للحفاظ على ما هو موجود بل احياء واصلاح ما تخرب جنبا الى جنب تخطيط وضبط ما يلزم من توسع آخذين في الاعتبار الحاجة الحقيقية للتوسع مع الاحتفاظ على اراضيها الزراعية وبيئتها الخاصة التي تعطي القوش طابعها وجمالها الخاص. انا ارى ان الظروف مؤاتية الان لكذا توجه حيث ادارة الامور الان بايدي ابناء القوش الغيارى منهم والحريصين عليها وبالامكان انتزاع القرارت والدعم المادي وغيره مما يلزم سواءا من سلطات المحافظة والاقليم والحكومة المركزية . كما ان القوش غنية بقدرات ابنائها المعمارية والهندسية والقانونية والثقافية والتراثية والمادية سواءا بين الذين لا يزالون صامدين في القوش والوطن او المتواجدين في بلدان المهجر المختلفة يضاف الى ذلك القدرات المادية والمالية للكثير منهم وانا على ثقة بانهم لن يبخلوا باستخدامها سواءا عن طريق الاستثمار او التبرع او غير ذلك اذا ما اقتنعوا بان هناك توجه جاد وخطط عملية ملموسة لتحقيق ما اشير اليه هنا. قد يتطلب الامر حسب رأي تكوين هيئة من ذوي الخبرات اللازمة والقدرات المادية المطلوبة من ابناء القوش المتواجدين في الوطن والمهاجر لبحث ومناقشة الفكرة وتقديم المقترحات وتنضيجها وصولا الى خطة عملية ملموسة تطرح على جميع الجهات ذات الشأن الحكومية منها والشعبية والكنسية والفردية والشروع بتنفذ ما يمكن وفقا للموافقات وما يتوفر من اموال ودعم مادي الخ.
صحيح ايضا, اخي عماد, ما تلاحظه من انتشار النوادي والجمعيات وانا اضيف الاحزاب ايضا فيما بعد سقوط الطاغية ونظامه الفاشي. هذا لم يحصل في القوش فقط وانما عم جميع انحاء العراق ولعله كان في بعض الاماكن اكثر بكثير مما في القوش. فبعد انقشاع الكابوس الرهيب الذي جثم على صدور الشعب عقودا طويلة واسامه الكثير من الظلم والقهر والحرمان والتعذيب والقتل الخ انطلقت الجموع عفويا لاشباع فضولها المكبوت وحاجاتها الذهنية المحرومة وشوقها الطاغي للحرية بتلقف كل ما كان يطرح في الساحة سواءا كان ناديا او جمعية او حزبا او حركة من مختلف المناحي والالوان والانتماءات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية. وبالطبع لم يحصل هذا بمعزل عن سياسة التجهيل والتضليل التي مارسها النظام المقبور لعقود عديدة ولا بمعزل عن الخذلان والبلبلة وخيبة الامل التي اصابت الكثيرين بفعل الانكسارات والتراجعات التي حصلت ومنها فشل التجربة السوفياتية وانعكاس ذلك على القوى والاحزاب والحركات التي رات فيها بشائر لمستقبل افضل الخ.
انا ارى ان تعدد هذه الاندية والجمعيات والاحزاب ظاهرة ايجابية لا داعي للتخوف منها المهم هنا ان لا تتعادى اوتتحارب فيما بينها الشيئ السليم هو ان ينشط ويسعى كل منها لتقديم ما تراه افضل لخدمة الناس وتحقيق حاجاتهم واهدافهم ومطامحهم وبشكل تدريجي ومن خبرتها المتراكمة سيصطف مزيد من الناس والجماهير الى جانب من هو افضل وانزه واصدق واكفأ في خدمتها وتفهم حاجاتها وتحقيق اهدافها والسير بها قدما نحو طموحاتها قريبة المدى منها اوالبعيدة . في اعتقادي ان الذي سيحضى بانحياز الجماهير اليه, وان كان بشكل متدرج وقد يكون بطيء, هو الطرف او الاطراف المدنية واللبرالية والديمقراطية والدينية المتفتحة الخ. ان من شأن وضع حد للعنف والارهاب ومن شأن وقف الصراع والشحن الطائفي ومن شأن استباب الامن والاستقرار ان يهيء فرصة افضل للجماهير لترى من يخدم مصالحها بشكل افضل وان تميز وتفرز بين القوى والاطراف والاحزاب الكثيرة الموجودة على الساحة الان وان تبتعد عن وتلفظ الانتهازيين والوصوليين واصحاب الشهادات الوهمية والمزورة والساعين لمصالحهم الذاتية ومكاسبهم الرخيصة واغتنائهم الذاتي على حساب مصالح الشعب والوطن.
الهجرة سرطان قاتل خاصة لشعبنا الذي يتناقص تواجده في موطن اجدادنا بشكل مرعب يهدد مستقبله لذا لا بد من العمل على مختلف الاصعدة وبكل الطرق لوقف هذا النزيف المميت. هنا اود ان احي بحرارة مواقف ومناشدات والمحاولات الحثيثة والمخلصة لقداسة مار لويس روفائيل بطريرك الكنيسة الكلدانية ليس فقط لتقليل وايقاف الهجرة بل من اجل اعادة من يرغب من المهاجرين الى وطن الاجداد. هنا ايضا فان من شان عودة الامن والاسقرار وسيادته في وطننا ان يقلل من وتيرة الهجرة ونفس الشيئ سيحصل عند تعافي الوضع اقتصاديا وتحسن نشاطه وتوفر فرص العمل للشباب والخريجين الخ. بهذا الخصوص ارى اهمية النظر بامكانية قيام المتمكنين ماديا من ابناء شعبنا وابناء القوش في المهاجر بالاستثمار في مشاريع مناسبة تقام في القوش مما سيشجع على البقاء وبناء حياة هناك للكثير من شباب بلدتنا.
بلدتنا القوش جزء من العراق تتأثر سلبا او ايجابا بما يحصل في العراق ولكونها في شمال مدينة الموصل وجزء من محافظتها فتكونت وترسخت لها علاقات اقتصادية وحكومية مع هذه المدينة العراقية الهامة. وكونها محاذية للمنطقة الكردية فهي تأثرت وتتأثر بما يحصل في هذه المنطقة ايضا. وبسسب القرب والجيرة تكونت لالقوش علاقات واسعة ومتشابكة مع القرى والعشائر الكردية المجاورة ونفس الشيئ يقال عن علاقة القوش مع القرى الأيزيدية وقيادتهم الروحية في باعذري وبشكل اضعف مع القرى العربية القليلة قرب القوش. وعليه فان اي شيء يحصل في العلاقات بين الاكراد او قياداتهم او اقليمهم وبين الحكومة العراقية او محافظة الموصل سيكون له تاثيرا عميقا ومباشرا على القوش. هذا ما عانى منه ولمسه اهل القوش خلال فترات الحروب والاعتداءات المتكررة التي مارستها الحكومات العراقية في مختلف العهود ضد الشعب الكردي وثورته القومية. والان تعاني القوش بسبب كونها ضمن المناطق المتنازع عليها فلا تنال ما تستحقه من اهتمام لا من الحكومة المركزية ولا من حكومة الاقليم. وباعتقادي سيبقى الحال هكذا لفترة قد تطول كثيرا نظرا للعقد والتشابكات والمشاكل المستعصية التي ترتبط بموضوع المناطق المتنازع عليها.ولهذا ارى ان على القوش ان تحافظ على علاقات ودية متوازنة مع كل الاطراف دون الميل او الاصطفاف مع طرف او جانب ضد آخرمما يسبب رد فعل ضار او غير مرغوب فيه من الطرف او الاطراف الاخرى.
انا على ثقة عالية باهل وشباب القوش سواء الصامدين فيها او الذين تركوها قسرا او الذين هجروها طوعا سعيا لحياة افضل بانهم سيلتفون حولها وياتون لنجدتها كلما وحيثما طلب الحال. المهم الابقاء على علاقات الود والاحترام المتبادل والتوصل الى اطر وكيانات للعمل المشترك مع احتفاظ الجميع بقناعاته الفكرية او السياسية او غيرها والعمل ما يمكن تقديمه او تنفيذه جماعيا لخدمة القوش في المجال الاقتصادي والزراعي والعمراني والخدمي والثقافي الخ. هذه ليست سوى افكار اولية وبودي ان اسمع او اقرأ افكار واراء الاخرين بمختلف مواقفهم وقناعاتهم وانتماءاتهم وارائهم الخ فانا على ثقة تامة باخلاص وسلامة نواياهم.
الخاتمة: لطيف ﭙولا
وبعد هذه الجولة الطويلة والممتعة ,عبر معترك الحياة التي صور احداثها بامانة تاريخية وبعقلية علمية الدكتور سعيد يوسف اسطيفانا , علينا ان نلتقط انفاسنا ونقدم شكرنا للدكتور المناضل لأنه كان احد ابطالها الذين ساهموا في مواجهة الانظمة الدكتاتورية عبر ستة عقود ,جسد وبكل امانة ,من خلال هذا السفر الخالد , معاناة شعبنا ونضالاته المريرة من اجل استقلاله وتحرره وتحقيق حياة كريمة وعيش رغيد .وكان سعيد اسطيفانا بحق من ضمن المناضلين النشطاء ,وقد عاش احداث كل هذه المراحل من حياة شعبنا في البيت والشارع والمدرسة والعمل والسجن ,وبكل جوارحه وتفكيره سواء كان ذلك داخل الوطن او خارجه .ولم تنـل من عزيمته وتصميمه وقوة ايمانه كل تلك المحاولات التي بذلتها الأنظمة الجائرة ,رغم العقبات والملاحقات والمضايقات التي فرضت عليه .. ومن اجل ذلك قدم هو وعائلته الكريمة , شانه في ذلك شأن كل المناضلين الثوريين الذين خـُلقوا للتغير ومواجهة الظلم وتحقيق ما هو افضل لشعبهم ووطنهم والانسانية جمعاء , قدموا الكثير الكثير ,ولم يفت في عضده كل اساليب الأنظمة الدكتاتورية ,من سجن وملاحقات وترهيب من اجل النيل من عزيمته .فقد تحمل الفقر والعوز والاضطهاد والسجون والتغرب , محافظا رغم كل ذلك على تصميمه في مواصلة النضال والتفوق العلمي , مبرهنا على قدرات المناضلين الثوريين التي لا حدود لها والمنصبة في مصلحة وطنهم وشعبهم . وعليه تبقى اسماء اولئك المناضلين الثوريين امثال الدكتور سعيد يوسف اسطيفانا ساطعة في صفحات تاريخ شعبهم وعلى شغاف قلوب محبيهم . ولا يسعني هنا , وبعد ان ارتشفت من سفره الخالد تلك الحقائق النضالية والتاريخية من حياته والتي كانت جزءا مهما من تاريخ نضال شعبنا , الا ان انثني اجلالا لهذا التاريخ النضالي الخالد ,وليبقى رمزا للعزيمة والتصميم الثوري في مجابهة الصعاب والثبات على المبدأ . وأبارك من كل قلبي, باسمي وباسم كل قراء هذا السفر الخالد ,تلك الجهود الجبارة التي بذلها الدكتور في رفد مسيرة شعبنا النضالية والعلمية ,وفي ظروف صعبة من اجل رفع اسم وطنه وشعبه عاليا في كل مكان حل فيه ..ونبارك العائلة التي أنجبته والتي وقفت معه في نضاله وتحملت بسبب ذلك النضال كل اشكال الظلم والتعسف من الانظمة الدكتاتورية الغاشمة من الملاحقات والفصل والسجن والاعتقال والتهجير . ونبارك البيت الذي ترعرع فيه وزرع فيه هذه القيم وهذه المثل ..ونبارك القوش …القوش المناضلة التي طالما علمت ابنائها رغم المحن والمؤامرات والدسائس , على الرجولة والبطولة والفداء والوفاء .فكان من ابنائها الغيارى ,الذين شربوا من مائها وتنسموا من هوائها وتشبعوا من نسغ تاريخها , ابطالا وقادة ومتفوقين في السياسة والعلوم والدين والفنون والثقافة . وقد طرزوا صفحات التاريخ بمئات ان لم نقل بالاف الاسماء ,ولا مجال هنا لذكر القليل القليل منهم . ولا يفوتني ان انحني امام بطولات شهدائها الابرار الذين تخضبت قمم جبالنا وحقولنا بدمائهم الزكية من اجل الحرية والحياة الكريمة .ورغم ما يكتنف سماء القوش اليوم من حلكة ,اذ يخيم عليها الظلام, الا ان تلك الاسماء ستبقى تضيء سمائها ليهتدي بها من ضل طريقه من ابنائها. وستبقى تلك الاسماء خالدة في سفر القوش, وسفر الوطن ,لانها كانت بمثابة شموع احترقت لتضيء طريق الاجيال , ومن تلك الاسماء الساطعة اسم المناضل الدكتور سعيد يوسف اسطيفانا .