بائع كعكة السميد

Khoranat alqosh12 يناير 2021715 مشاهدةآخر تحديث :
المطران الدكتور يوسف توما
المطران الدكتور يوسف توما

صعد بائع كعكة السميد ومعه صينية فارغة إلى سيارة النقل العام (التي كانوا يسمّونها “صواريخ” في ستينيات القرن الماضي) وجلس في جواري. ولما كانت السيارة شبه فارغة، وعادة ما أنزل في نهاية الخط، في الكراج العام لأمشي إلى دائرتي، دخلت في محادثة معه:

قلت له: “يبدو أنك قد بعتَ كل ما كان لديك من كعك “السميد” مبكرا في صباح اليوم”.

ابتسم البائع وقال: “الحمد لله تعالى مبيعات اليوم كانت جيدة”.

أنا: “حقا أشعر بالأسف بالنسبة لكم أنتم أبناء الشعب، لأنكم تتعبون في الحصول على الرزق، أليست هذه المهمّة متعبة لك؟”.

البائع: “ما العمل، يا سيدي؟ عن طريق بيع السميد مثل هذا، لدي كل يوم نسبة 10% مما أبيع خلال بضع ساعات”.

أنا: “أوه، هكذا؟ كم عدد قطع السميد التي تبيع بالمعدل كل يوم؟”.

البائع: “في أيام ذروة الأسبوع، أبيع 4000 إلى 5000 قطعة في اليوم الواحد. لكن في المتوسط، لا أبيع سوى حوالي ثلاثة آلاف قطعة يوميا”.

كاد نفسي ينقطع للحظة، فالرجل يقول إنه يبيع بين ثلاثة إلى خمسة آلاف قطعة سميد يوميا؛ وليس لديه سوى 10% من الربح على كل قطعة، أي يكسب حوالي مئة ألف دينار يوميا، أي ثلاثة ملايين دينار بالشهر. هذا راتب جيد جدا شهريا. يا إلهي!

كثفتُ استجوابي، وهذه المرة لم يكن فقط لقضاء الوقت!

أنا: “هل تصنع السميد بنفسك؟”،

البائع: “كلا يا سيدي، نحصل على السميد من خلال المعمل ونحن مجرّد نبيعه. بعد البيع نعطي المال لصاحبه ويعطينا هو أجورنا على كل قطعة، أنا أبيع فقط!

لم أكن قادرا على التلفظ بأي كلمة أكثر، لكن البائع تابع يقول: “ولكن أقول لك شيئا واحدا … إنفاقنا هو على المعيشة. ومع ما يتبقى من المال يمكننا رعاية أعمال أخرى”.

أنا: “أعمال أخرى؟ ما قصدك؟”

البائع: “اشتريتُ أرضا لإقامة شركة تجارية قبل عشرة أعوام في منطقة نائية مساحتها 1.500 م2 بسعر 10 ملايين دينار وبعتها بعد بضع سنوات بسعر 80 مليون. الآن اشتريت أرضا أخرى بسعر 40 مليون، أتعرف أنتَ، إن المدينة تمتد والأراضي ترتفع وليس أحسن من شراء الأراضي!

أنا: “ماذا فعلت بالمبلغ المتبقي؟”.

البائع: “بالمبلغ المتبقي؟ وضعت جانبا 20 مليون لحفل زواج ابني. وأودعت 20 مليون أخرى في البنك، ووضعت في التأمين (وديعة ثابتة)”، بفائدة 15% واشتريتُ ذهبا واشتريتُ نقدا، عملة صعبة.

أنا: “كم كانت مدّة دراستك؟”.

البائع: “درستُ حتى الثالث الابتدائي. توقفتُ عن دراستي عندما كنتُ في الرابع الابتدائي. ولكنّي أدبّر أموري في القراءة والكتابة. لكن سيدي، هنالك الكثير من الناس مثلك، الذين يلبسون لباس جيد، قاط وربطة عنق، وأحذية لامعة، ويتحدّثون الإنجليزية ويعملون في غرف مكيّفة. مع ذلك، لا أعتقد أن مثل هؤلاء يكسبون الكثير، لأن عينهم على الراتب، وليس كما نفعل نحن الذين نرتدي ملابس قذرة ونبيع السميد”!

عند هذه النقطة، ماذا كان بإمكاني أن أردّ؟ لقد كنتُ بعد كل هذا، أتحدّث إلى رجل أعمال حقيقي، مليونير!

عندئذ وصلت السيارة إلى الكراج، ونهضتُ ونهض بائع السميد. وقال: “سيدي… أتمنى لك نهارًا سعيدا”.

مرحبا بكم في عالم التجارة والأعمال اليوم ومثله كثيرون ممّن لا ينتظر الراتب في رأس الشهر، هو انتهى دوامه عندما بدأ دوامي أنا!

(ملاحظة: عناصر هذه القصة جمعت من بائع للكبّة في بغداد أمام المحاكم، وقصّة مشابهة حُكيَت لي في جنوب الهند عام 2018).

كركوك 12 كانون الثاني 2021

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل!