باسل شامايا
التعليم هو ركن من أركان المجتمع وعنصر أساسي في تقدمه وتطوره علميا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ، ونتيجة لهذا التطور يتميز الوطن بالمكانة التي يستحقها بين دول العالم ، ويجب ان نعلم ان القائد والمحرك الأساسي والفاعل لدفة التربية والتعليم هو المعلم ، صانع الحضارات البشرية ، هذا الانسان الذي علمنا الحرف والكلمة ، وأفنى زهرة شبابه في تنشئة الأجيال التي تخرجت على أيديهم البارحة واليوم وغدا وها هم باتوا قادةً للمجتمعات الانسانية ، يعملون في مراكز حساسة منهم الوزراء ونوابا في البرلمان وفلاسفة وعلماء واطباء ومهندسين وغيرهم . فعلى عاتق المعلم تقع مسؤولية التعليم والتربية التي من خلالها ينشر التسامح والمحبة بين الناس وينبذ العنف والعنصرية ويقوي الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن . وقبل ان اسهب بالحديث عن احد هؤلاء المربون أود أن أضيف معلومة ربما تكون جديدة لدى البعض من احبتنا القراء وهي: )) لقد صدر في العهد الماضي مرسوما ملكيا وتم تعميمه الى دوائر الشرطة والذي يحوي فحواه ، تأدية التحية الى المعلم الذي تجاوزت خدمته ( 25 سنة ) أسوة بالقادة والضباط )) وهذا خير دليل على المكانة التي كان يتميز بها المعلم يسعدني جدا ان اتناول في مقالي هذا محدثا وبإسهاب عن أحد ابناء القوش البررة الذي له باع طويل وتأريخ مشرّف في مجال التربية والتعليم والذي بات اليوم رمزا من رموزها ، انه المربي الفاضل جرجيس ابراهيم بطرس حميكا الذي اشرقت شمس ميلاده في القوش عام 1922 . ينحدر من عائلة فقيرة ، دخل مدرسة مار ميخا النوهدري الأبتدائية للبنين عام 1929 وتخرج عام 1935 ، لم يتمكن من تكملة دراسته الثانوية لعدم وجود الثانوية في القوش ، و كان وضعه الاقتصادي لا يساعده بالذهاب الى الموصل لتكملتها هناك ، فبقي سنة واحدة جليس الدار ، وعندما علم الاب فرنسيس حداد بذلك تأثر كثيرا لأنه كان يعلم مدى ذكائه ، فأوعز الى والدة جرجيس بالذهاب الى مدينة الموصل والأنضمام الى بعض النسوة من القوش للعمل في المخابز بغية تحسين وضعهم الاقتصادي ، وبذلك يتمكن ولدها من تكملة دراسته . لقد كانت السنوات الخمس من العمل المضني التي ارهقت والدته سببا رئيسيا بإنهائه الدراسة الثانوية كما يعود الفضل ايضا الى مثابرته ليلا ونهارا في الدراسة خصوصا في العام الدراسي الاخير ، حيث كان يقضي جل اوقاته في الدراسة مختاراً منطقة(كوبا دمايا ) ذلك المكان الهادىء البعيد عن الصخب والضوضاء ، ليؤهل نفسه للأمتحانات النهائية التي ستقرر مصيره ، وبالفعل أثمرت جهوده ومواظبته الدءوبة بالنجاح فاجتاز تلك المرحلة الدراسية وحصل على المرتبة الأولى في عموم الموصل بمعدل 83% ، لم تسع الدنيا فرحة لوالدته حين سماعها بذلك النجاح الكبير ، والتي لم تذهب تضحيتها بصحتها وراحتها سدىً . توجه الى بغداد للعمل حينما وجد فرصة سانحة في السكك الحديدية ولكن ابن عمه المرحوم الياس حميكا اقنعه على تكملة الدراسة الجامعية خصوصا كان تصنيفه الاول على الموصل ، فاقتنع والتزم بنصيحته واصرار والدته على ذلك ، واستمرت والدته بعملها في الموصل لكي يتمكن من تسديد مصاريف الدراسة .. بعد ان قدم مستمسكاته الى دار المعلمين العالي ( كلية التربية حاليا ) عام 1941وحصل على تسلسل رقم ( 2 ) في القبول ، وحسب رغبته اختار قسم الرياضيات والفيزياء ، حيث كفله صديق له من القوش يدعى ( اوراها شابا كتو ) . استمرت دراسته ثلاث سنوات ولكن لم تتمكن والدته من الاستمرار في العمل اكثر من سنتين لأن حالتها الصحية تدهورت في السنة الاخيرة من دراسته فاضطر شقيقه الاصغر يوسف لأصطحابها الى القوش لترتاح من العمل المضني وتعب السنين ، ثم عاد الى بغداد ليأخذ مكان والدته في العمل من اجل ان يتمكن شقيقه اكمال دراسته في دار المعلمين العالي وبالفعل تخرج وبامتياز عام 1945 وما زالت وثيقة تخرجه لحد يومنا هذا بمعية اولاده .
تم تكريمه آنذاك من قبل الملك فيصل الثاني ملك العراق حيث أدخلت هذه النتيجة المشرفة البهجة والمسرة الى اعماق والدته التي كانت تنتظر تلك النتيجة بفارغ الصبر . بعد تخرجه حصل على مقعد دراسي في جامعة القاهرة لتكملة الدراسات العليا لكنه رفض الذهاب لان طموحه كان ينصب للدراسة في احدى جامعات لندن لكنه لم يحالفه الحظ . ومن زملائه الذين درسوا معه وكانت تربطه بهم علاقات زمالية حميمة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي كان يدرس في قسم اللغة الانكليزية / وشاذل طاقة الذي اصبح فيما بعد وزيرا للخارجية في عهد النظام السابق كان يدرس في قسم اللغة العربية ، وكذلك الشاعرة العراقية نازك الملائكة في قسم اللغة الانكليزية ايضا وغيرهم الكثير . لقد كان في اوقات فراغه يلتقي مع زملائه في مقهى الزهاوي / شارع الرشيد ، تارة يمارس لعب الدومينو واخرى الكونكان ، وقد كان مولعا باللغة العربية وقراءة الشعر لذلك يقضي مع زملائه اوقاتا ممتعة في مباراة شعرية التي كان يستمتع بها كثيرا ، واحيانا في نقاشات حول اوضاع البلد . وكان الشاعر السياب صديقه المفضل في لعبة الدومينو فحينما كان بقية الاصدقاء يطلبون منهما لعب الكونكان كان السياب يقول : سنلعب انا وجرجيس الازنيف ، لأنه اذا حضر الازنيف لا مكان للكونكان . في نفس السنة التي تخرج بها من الجامعة صدر أمر تعيينه مدرسا في احدى مدارس مدينة السليمانية / قضاء حلبجة وبقي حوالي ثلاث أعوام زرع فيها المحبة والتعاون والمواظبة والاجتهاد عند تلامذته الذين احبهم وأحبوه ، وفي عام 1948 تزوج من السيدة ماري ابنة المرحوم زورا ككميخا وانجب منها خمس اولاد ( ثلاث بنين وابنتين ) وانتقل الى مركز المدينة وبقي هناك حتى عام 1954.
وبعد ذلك انتقل الى ثانوية المثنى ثم ثانوية الشرقية في الموصل وبسبب الحوادث الكثيرة التي وقعت فيها انتقل عام 1959 الى ثانوية القوش للبنين بطلب منه حيث كان المرحوم منصور عودة مديرا للثانوية حينذاك ، علما كان قد درس في نفس الدار والقسم لكنه تخرج عام 1949 اي بعد الاستاذ بأربعة أعوام ، وبقي مديرا للثانوية حتى عام 1964 وبعد انتقاله الى بغداد تولى ادارة الثانوية الاستاذ جرجيس حميكا وبقي يمارس مسؤوليته فيها حتى عام 1971 . خلال تلك الفترة التي شغل فيها وظيفته مديرا للثانوية ازدادت شعبيته في المنطقة ونجح نجاحا كبيرا في ادارته الحكيمة للثانوية ، ومع شدته وانضباطه كانت له مكانة خاصة عند التلاميذ والهيئة التدريسية تكنّ له كل الاحترام والتقدير ،وكان تقييمه من قبل مديرية تربية الموصل متميزا جدا ، حيث قدمت له المديرية العديد من كتب الشكر والتقدير على نسبة النجاح التي كانت تحققها مدرسته في كل عام . في عهده نسّب العديد من المعلمين الى الثانوية لكفائتهم وحاجة الثانوية اليهم ومنهم الأساتذة : ( بطرس بدي / حنا شدا / عادل تيزي ) . بالرغم من قدرته وامكانيته ونجاحه في ادارة المدرسة لم يستمر اكثر من 7 أعوام بسبب عدم تعاونه مع السلطة الحاكمة في ذلك الوقت ، ثم تعين احدهم اقل كفاءة منه لكنه كان اكثر حظا منه لانه كان مواليا للسلطة . اما الأستاذ جرجيس حميكا أخذ مكانته كمدرّس لمادة الرياضيات وأغدق على تلامذته بمعلوماته القيمة وطريقته المثلى في ايصال المادة اليهم ، واضافة الى تدريسه في الثانوية كان يدرّس ايضا في متوسطة القوش للبنات . لقد ترك اثرا كبيرا عند تلامذته لانه لم يكن لهم استاذا فقط بل ابا روحيا ومربيا فاضلا ، وكان حبهم وتعلقهم به يشعرهم بالأمان والطمأنينة . وبقي مدرسا في الثانوية يؤدي مهمته بكل تفاني واخلاص حتى تعرض الى حادث مؤسف بسيارته الخاصة وهو في طريق عودته من الموصل الى القوش وذلك بتاريخ 29/11/1975 ولم يتجاوز حينها من العمراكثر من ( 53 سنة ) .
غادرنا مبكرا اثر هذا الحادث الذي اودى بحياته الكريمة فنزل خبر وفاته كالصاعقة على اهالي القوش الذين افتقدوه قبل أوانه ففوجعوا وأدمى فراقه الابدي قلوبهم ، وادخل برحيله الحزن والاسى الى قلوب زملائه وتلامذته ومعارفه واهله وذويه . قبل ان اختم مقالتي اود ان اتحدث عن بعض من مزايا الراحل العزيز والتي تتجسد بحرصه الشديد على تأدية واجبه بضمير حي ، ونبله وتواضعه وامانته على ما اوكل اليه ، كان هادئا متواضعا تواقا لأغتراف المعرفة ، طيب القلب والمعشر محبا مولعا في اقتناء الكتب ولا يتردد بشرائها ، كان المثل الأعلى للأتزان والخلق الرفيع حظي بالاحترام والتقدير للجهود التي كان يبذلها لتكون مدرسته في مقدمة المدارس المتميزة فيما تحققه من النجاح في النتائج الامتحانية الاخيرة . وهكذا بقي الاستاذ جرجيس حميكا عبر عقود من تاريخ البلدة علماً ورمزاً من رموزها في مجال التربية والتعليم ، ستبقى شاخصا وحيا في اذهان الناس وتبقى ذكراك عطرة في قلوب معارفك وخالدا في ذاكرتهم على مر السنين ، اختتم مقالي هذا باهداء هذه المقاطع الى المربي الراحل من ولده المهندس ليث جرجيس حميكا :
بكيت عليك سنيناً وسنينا ولم اجنِ من البكاء فجراً وليدا كان لديك كل قوافي التربية والحب واصبح لدينا دموع البقاء شرودا تسع وثلاثون عاما مريرة والعمر بات علينا نارا وقودا