نشوء “البطريركيات” في المسيحية

Khoranat alqosh28 أغسطس 20211138 مشاهدةآخر تحديث :
نشوء “البطريركيات” في المسيحية

الكاردينال لويس روفائيل ساكو

ليست المسيحية مؤسسة إلهية فحسب، بل بشرية أيضاً، ولهذا اهتمت الكنيسة على مرّ العصور، بإرشاد الروح القدس، بتنظيم بُناها structures، وتطويرها وفق عدة عوامل: ثقافية ولاهوتية واكليزوجية (التواتر الرسولي) وجغرافية واجتماعية، وسياسية وقانونية، لمواجهة التحديات والمتطلبات مع المحافظة على هويتها الكنسية الأساسية.

بدأت المسيحية كدعوة “بشارة” الإنجيل (تعليم) المسيح الذي هيأ له بتنشئة فرق للبشارة من 70 (أو 72) تلميذاً ثم 12 رسولاً وفريق النسوة اللواتي تبِعنَه، ثم أقام الرسل أنفسهم فريق الشمامسة السبعة.

في الوثائق الأولى ككتاب ديداكيه (تعليم الرسل الاثني عشر) نحو العام 100 ورسائل أغناطيوس الإنطاكي (+ 107) واقليمنضس الروماني (93-101) ونصوص اخرى قديمة1، يظهر لنا فريقان في الكنيسة: فريق يتكون من الأساقفة  والقسس،والشمامسة، وهم عموماً مقيمون في المدن والقرى لمتابعة التعليم والتنشئة والإدارة وخدمة الليتورجيا وممارسة أعمال المحبة. وفريق مواهبي يتكون من الرسل والأنبياء (أنبياء العهد الجديد ولهذا السبب ياتي اسم الأنبياء في القداس الكلداني بعد الرسل) ومعلمين، وهم متنقلون لحمل البشارة.

في نهاية القرن الثاني انتقلت القيادة المركزية للكنيسة المحليّة الى الاُسقف (خليفة الرسل)، محاطاً بفريق من الكهنة والشمامسة. ويُعد وحده الراسم- السايوم ordinant- ordinary، ثم ظهرت اولوية عاصمة الاقليم او المملكة فسمي اسقفها في القرن الثالث المطران Metropolitan. في منتصف القرن الخامس برزت تسمية البطريركيات (مجمع خلقدونية في العام 450، الفقرة 7-8) لترأُس المجمع الاقليميsynod. هذه البطريركيات هي حسب التسلسل والأهمية: روما، الاسكندرية، أنطاكيا وفيها سمي اتباع المسيح بالمسيحيين، والقسطنطينية، كونها عاصمة المملكة الرومانية أخذت المرتبة الثانية ثم اورشليم، الكنيسة الأم. وتطورت مفاهيم أولوية البطريركية على ارض الواقع بحسب سياسة المملكة المهيمنة.

 

بطريركية كنيسة المشرق

ان دخول المسيحية الى بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس بحسب التقليد المتواتر كان بمساعي مار توما الرسول في طريقه الى الهند، وتلميذيه مار اداي وماري.

دعيت كنيسة المشرق بهذا الاسم نسبة الى المشرق ܥܕܬܐ ܕܡܕܢܚܐ وشملت شعوباً عديدة ودولاً مختلفة، لكن مركزها بقي في بلاد ما بين النهرين. وفقاً للمؤرخين ان أول مركزية حصلت في كنيسة المشرق كانت في زمن البطريرك فافا (310-329) ثم في مجمع البطريرك اسحاق (410) وفي مجمع داديشوع سنة 424 حيث جاء بوضوح: “ان اسقف ساليق هو لنا بمثابة بطرس وهو رئيس جماعتنا الكنسية2. فأولوية كرسي المدائن هي نتيجة حتمية وطبيعية لاصلها الرسولي واهميّتها السياسية والكنسية. سمّي رئيسها كاثوليكوس، اي الاب الجامع، ثم بطريرك، أي ابو الآباء، وغالبا ما يدمج اللقبان. يقول البروفسيور وليم ده فريس: “ان بطريركية المدائن لم تولد نتيجة انسلاخ عن انطاكية. ان التطور نحو مركزية الإدارة الكنسية قد تقدم بخطى موازية، سواء داخل الامبراطورية الرومانية كما في خارجها. وان لقبَي “بطريرك وجاثليق قد اُستعملا منذ البدء كمترادفين في واقع الحال. وان بطريرك المدائن لم يكن أبداً “نائباً عاماً” لبطريرك انطاكيا، بل كان مساوياً له في الدرجة”3.

أول كرسي لكنيسة المشرق كان في كنيسة كوخي في ضواحي بغداد الحالية في منطقة بوعيتا، ثم انتقل الى المدائن (ساليق وقطيسفون) الى ان منح الخليفة العباسي هارون الرشيد أحد قصوره الى البطريرك طيمثاوس الكبير (780-823)، فانتقل اليه وسكن خلفاؤه احيانا في دير ماري او دير قني ثم في دار الروم (سوق الثلاثاء حالياً). بعدها الى مراغا في زمان يهبالاها الثالث المغولي (1281-1317) واربيل وكرمليس والجزيرة والموصل والقوش. وانتقل بطريرك كنيسة المشرق (الاشورية) الى قودجانس (هكاري). وعندما هُجِّر منها الآشوريون عقب الحرب العالمية الاولى أقام بطريركهم في ايران والعراق ثم في انكلترا واستقر أخيراً في الولايات المتحدة الامريكية. وفي سنة 1976 سميت الكنيسة بكنيسة المشرق الاشورية وعاد البطريرك المنتخَب الجديد، قداسة مار كيوركيس الثالث صليوا ليسكن في أربيل سنة 2015.

 

بطريركية بابل على الكلدان

قام البطريرك شمعون الرابع الباصيدي (1437-1497) في حصر البطريركية والكراسي الاُسقفية المهمة في عائلته (عائلة أبونا) وشرَّع التوريث خلافاً للتقاليد الكنسية، مما شكّل خرقاً قانونياً ولاهوتياً في كنيسة المشرق4. اول كنيسة كلدانية ولدت في قبرص في زمن مطرانها طيمثاوس سنة 1445 و قد حمل لقب رئيس أساقفة الكلدان في قبرصArchbishop of Chaldeans in Cyprus 5 . لكن هذه الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية لم تستمر بعد وفاة طيمثاوس.

انشقاق سولاقا رئيس دير الربان هرمزد في القوش سنة 1552-1553، سببه معارضة التوريث في كنيسة المشرق وليس لمسألة عقائدية. وسمِّي بطريركاً على الكلدان (سِيَر البطاركة ص 161)، وهكذا سار خلفاؤه الى البطريرك يوسف الثالث حيث ذكر في مرسوم التثبيت 18 آذار 1724 بطريرك بابل على الكلدان ثم تبنى التسمية البطريرك يوحنان هرمز 1830.

لماذا التغيير؟

 هذا التغيير التصحيحي الموفق جاء نتيجة دراسة، وليس اعتباطاً كما توهم البعض.

ان تسمية الكرسي البطريركي الكلداني ببطريركية بابل على الكلدان تسمية خاطئة وباطلة، لا أساس تاريخي لها. البطريركية المشرقية والكلدانية بشكل خاص لم تؤسَّس في بابل، وانما في كوخي – ساليق- المدائن انذاك، انها مسألة علمية تاريخية لا جدال عليها. فإن بابل لم يرِد ذكرها ككرسي أسقفي أو بطريركي على مر التاريخ، لذا قام آباء السينودس بتصحيح التسمية. فما المشكلة؟ ولماذا كل هذه المزايدات التي لا تبرير لها، والتي تُسيء الى الكنيسة واليهم وتعقدّ العلاقةّ.

اليكم الفقرة المتعلقة بالتسمية كما وردت في محضر السينودس، جلسة صباح الجمعة 13 آب 2021:

“دعا غبطته إلى الاكتفاء باسم “البطريركية الكلدانية” وحذف اسم “بابل”، لكون هذه المدينة لا تمت بصلة لتراثنا الكنسي، كما ان بابل لم تكن قط مقراً للبطريركية. وبعد المداولة تم التصويت بالإجماع على هذا التغيير”. هذا ما سجله امين عام السينودس المطران يوسف توما وبمعاونة المطران أنطوان اودو.

تسمية البطريركية ببابل تختلف عن الحقيقة التاريخية والكنسية لبطريركيات روما، انطاكيا واورشليم والاسكندرية. إنها تأسست تاريخياً في هذه المدن، حتى لو لم يقم البطاركة اليوم فيها. أما بابل فلا علاقة كنسية لنا بها على مرّ العصور. لربما سميت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر ببطريركية بابل لسبب قومي وليس كنسي، لان بابل كانت عاصمة الامبراطورية الكلدانية وورد اسمها عدة مرات في الكتاب المقدس.

بابل جزء من التراث الوطني العراقي والعالمي، واني كعراقي وكلداني افتخر بهذا التراث، لكني كمسيحي أرفض ان تكون آلهتها آلهتي وأقرّ  إن الهي واحد أحد هو الخالق وابنه يسوع المسيح مخلصي.

بابل الأثرية تقع بقرب من مدينة الحلة مركز محافظة بابل، مثلما نينوى الأثرية هي الموصل مركز محافظة نينوى!

الكلدان كشعب موجود قبل الأديان وقبل المسيحية والكنيسة. إن القوميين الكلدان أحرار في انتمائهم القومي الى بابل واور ارض إبراهيم الخليل، ومتابعة شانهم القومي. نحن ككنيسة نحترمهم ولا نعارضهم، لكن لا نقبل ان يُلبسوا الكنيسة قناعتهم وأن يُخضعوها لأهدافهم، بل من واجبهم إحترام الكنيسة كي تستمر في أداء رسالتها الجامعة وعملها اللاهوتي والروحي والإنساني.

___________

1 لمزيد من المعرفة مراجعة كتابنا ” الآباء الاوائل، دار المشرق بيروت 2013

2 ساكو ، سِيَر بطاركة المشرق، بغداد 2020 ص 34

3 ترجمة الاب ( المطران) سرهد جمو، مجلة بين النهرين عدد 1975 ص 325. كما طالع مقالنا المفصل عن انطاكية كنيسة المشرق في نفس المجلة لسنة 95/96 عدد 24 ص 204 – 216 ومقالا اخر : رسالة الاباء الغربيين الى المشارقة، وثيقة خالية من الاساس التاريخي، مجلة بين النهرين 1981 ص 346-355، كذلك المطران (البطريرك) عمانوئيل دلي، المؤسسة البطريركية بغداد ص 46-52.

4 سِيَر بطاركة كنيسة المشرق ص 146- 148

5 سِيَر البطاركة ص 149

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل!