عماد رمو/ هولندا ايار 2019
لقد كان عقد العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي من العقود المهمة في تاريخ الانسانية، حيث خرج العالم حينها من ابشع حرب كونية،وفي حين كانت الدول نفسها تتهيأ لحرب كونية ثانية مكملة للاولى. لقد تغيرت خارطة الشرق الاوسط كليا بعد اندحار تركيا وانهيار الامبراطورية العثمانية بعد خسارتها للحرب مع المانيا. وكانت اثارالدمارالذيخلفه الاتراك لوطننا العراق وشعبه تركة ثقيلة لازلنا نعاني من تبعاتها ولحد هذا اليوم . ولم يشعر شعبنا بالسعادة التي كان ينتظرها بانتهاء الفترة المظلمة للأحتلال العثماني لبلادنا والتي استمرت زهاء اربعة قرون،ولم يتخلص الوطن من تلك المعاناة وبشكل خاص في بلدتنا القوش، إذ بدا عصرٌ آخر لا يقل ضراوة ألا وهو عصر الاحتلال والسيطرة على منابع النفط الكثيرة والغزيرة والتي تسري كالانهار تحت ارض بلاد الرافدين العظيمة. لقد بدأت حينها انكلترا بترتيب المنطقة مع فرنسا ضمن معاهدة سايكس بيكو المشهورة. لقد عانى العراق من فقر وجوع وبطالة وتاخر ولكن بعد دخول الانكليز، وكعادة كل محتل، بدأ باقامة الدولة العراقية الحديثة وبكل مؤسساتها وربطت العملة العراقية الدينار مع الجنيه الاسترليني.
في هذه الفترة كانت القوش بلدة زراعية كبيرة في مقياس البلدات المحيطة بها، حتى قيل انها كانت اكبر من نوهدرا (دهوك الحالية) وكانت مركزا للتجارة والزراعة معا لموقعها الاستراتيجي ولامتلاك اهلها اراض وحقول زراعية واسعة خصبة تمكنها من انتاج الغلة الكافية للعيش الكريم. لم تكن المكننة الحديثة قد دخلت بصورة نهائية الى القوش، حيث كان الفلاحون يستخدمون الحيوانات في الزراعة ويصنعون اكثر العدة والادوات اللازمة لزراعتهم في سوق النجارين والحدادين الكبيرين التي كانت تشتهر بهما القوش.حينها كانت القوش تزود المنطقة بجميع ما يحتاجه الفلاح من هذه الادوات. لقد كانت القوش مركزا للحياة في المنطقة. وفي عام 1925م رُزقت عائلة المرحومين حسقيال زلفا وانو ابونا بطفلهما الثاني واسمياه حنا تيمنا بمار يوحنان والذي مزاره في حقول القوش القريبة من محلة سينا. عائلة زلفا (زلفة) جاءت الى القوش من سميل حسب كتاب القوش عبر التاريخ. لقد استقرت هذه العائلة في ربوع هذه المدينة التي فتحت ابوابها دائما للجميع.
لقد احس الشاب حنا بمسؤولية كبيرة وعمره لا يتجاوز الاثنتاعشرةعاماإذ قرر مغادرة القوش بعد ان اكمل تعليمه الابتدائي في مدرسة مارميخا الى كركوك،ومن هنالك الى بغداد للعمل من اجل تهيأة الطريق والمستقبل امام اخوته.وكان قد ترك مسئولية رعاية والده الضرير الى اخيه المرحوم عبو زلفا، حيث بقي وحده (مع المرحومة الماس زوجة المرحوم البطل توما توماس) في القوش مع والديه وخدمهما الى اخر يوم من عمرهما. اما حنا، الشاب الذي اصبحت القوش لا تسع لطموحاته، وخاصة في منتصف الثلاثينات، حيث كان الكساد العالمي قد ظلل الجميع بفقر وبطالة قاتلة . حمل حنا حقيبته وترك القوش وكان حينها في عمر الشباب،وفي زمن كان فيه الشباب ينضجون جسديا وذهنا اكثر مما نراه اليوم ربما لشعورهم بالمسؤولية تجاه عوائلهم التي كانت تعاني من شظف العيش . و كان حنا منذ طفولته يتصف بالشجاعة والجراة مع الاحساس الكبير بحماية النفس من شر الاعداء.
بدأ حنا يشق طريقه في عالم التطبيب والجراحة حيث عمل مع اشهر الاطباء والجراحين وتدرب تحت ايديهم، لم يكن بمقدوره الالتحاق بالمدارس والجامعات كغيره من اولاد الاغنياء ولكنه تعلم الطب والتطبيب والجراحة من خلال ممارسته لهذه المهنة في اشهر مستشفيات بغداد حينها. لقد عمل مع الدكتورمنعم صالح في مستشفاه الاهلي، وكذلك في مستشفى دار السلام (وهي المستشفى التي عولج فيها الزعيم عبد الكريم قاسم جراء محاولة اغتياله في شارع الرشيد). حياته المهنية مع اطباء العراق طويلة وتستحق الاعجاب، حيث كان الكثيرون يتمنوا ان يكون حنا زلفا احد اعضاء طاقم عملياتهم الجراحية. لقد عمل فترة مع الدكتور جابر محسن واخرى مع الرسام الشهير الدكتور علا بشير. لقد كان حنا زلفا حاذقا في عمله وله مهارة كبيرة في استحصال النتائج الكبيرة وتشخيصاته كانت في محلها اكثر الاحيان.
لقد تحقق حلم حنا زلفا بالاستقرار مع اخوته ( المرحوم يونس والمرحوم القس ابراهيم والمرحومجليل) في بغداد حيث كانوا اصدقاء واكثر من اخوة، لابل كانوا خلية وعائلة واحدة في زمن الشدة.
لم تستقر الامور كما ارادها حنا حيث توالت قوة الشر وتكابلت على ثورة 14 من تموزيوم قام البعث بانقلاب دموي على الثورة وسالت دماء كثيرة وشعر حينها بان حياته مهددة فقرر ان يترك بغداد ويسافر الى القوش ومن ثم الى جبال كردستان لمدة تزيد على الثمان سنوات. لقد ترك عمله وهرب من بطش بغداد وانقذ عائلته من خطر الموت الذي كان يهدد كل شخصية وطنية حينها. لقد استقر في البداية في دير الربان هرمزد وبعد ان بدا طيران انقلابي 8 شباط بدك كل مقرات الاحرار، انتقل الى بسقين مع رفاقه الاخرين حيث ارسل عائلته مرة ثانية الى بغداد وبمساعدة اصدقائه من وجهاء المنطقة حينها. لقد كان له شبكة علاقات طيبة مع الجميع. و استمر بالعمل والنضال الانساني من خلال عمله في علاج جرحى الحركة الكردية وعوائلهم وانتقل الى اماكن عديدة وحسب متطلبات الضرورة حينها. لقد عرفته جبال كردستان صديقا لها. و بلدة باطوفة تشهد له، وكبار القادة كانوا من اصدقائه. استقر في (برورعلايا) لحين رجوعه الى بغداد.
وعندما كنت التقي بالمرحوم حنا زلفا (ابو ليث) كان يقص لي احداث تلك الايام وهي قصص انسانية تستحق التوثيق،وكان اخوه وصديقهالمرحوم جليل زلفا ساعده الايمن و شاهد على تلك الايام وعن كثب، حيث لازمه طوال تلك السنين. لقد كانت زوجته،عمتي ميعاد (ميلان) يوسف رمو حريصة ان يتمتع اطفالها بحنان ابيهم حيث كانت ترافقها امها المرحومة حبي يوسف اسمرو كل صيف الى المقر الذي كان يعمل فيهالمرحوم حنا زلفا في باطوفة،ومن اجل التحام العائلة، وعدم حرمان الاطفال من حنان ابيهم . لقد كانت ايام عصيبة على هذه الزوجة والام العظيمة إذ لم تترك زوجها ابدا في محنته تلك، لقد كانت الزيارات سرية وفيها من الخطورة الكثير الكثير. وكان لحنا زلفا علاقات كثيرة وكان له ايضا صلات جيدة مع معظم وجهاء وشخصيات كردستان والمنطقة. كانت اموره رغم صعوباتها ينفذها حسب ما خطط له. واحساسه المرهف كان ينبهه دوما بالخطر وكيف ينجو منه. فلم يخاطر ابدا يعرف من اين ياتي الخطر ولم يتركه ان ينال منه ابدا. لقد ظل طوال حياته امينا على نفسه وحياته وحياة الاخرين حيث كان حاذقا ولم يترك الاقدار تتحكم به .
بين ربيع وصيف عام 1970 وقفت امام بيتنا (في محلة سينا) سيارة جيب وترجل منها عدة رجال بملابسهم الكردية وبكامل اسلحتهم يتقدمهم رجلا وسيما فارعا في الطول يتزين بالملابس الالقوشية الجميلة حاملا سلاح القادة، يحرسه بعض الرجال الاكراد رافقوه الى القوش بعد ان انتهت فترة خدمته الانسانية في الجبال. لقد كانت بالنسبة لي المرة الاولى التي ارى فيها المرحوم حنا زلفا و كان عمري حينها لا يتجاوز التاسعة وتوالت على بيتنا الوفود والجماعات من القوش وخارجها لاستقباله والترحيب به، لقد كان اشبه بالعيد لنا جميعا ونحن نتعرف على شخصية العم حنا. رجل بقامة فارعة الطول ونظرات ذكية وحنان ابوي. رجل علمته الحياة ومحطاتها كيف يبتهج بكل دقيقة منها، رجل عرفته جبال كردستان العالية ورجالها معا. لقد عمل بفناء من اجل الانسان وقام بكل ما يمكن ان يقوم به انسان نذر نفسه لمعالجة اخيه الانسان.ومن كثرة اعماله النبيلة التي غرسها وزرعها العم حنا زلفا في كردستان، حكى لي والدي داويذ يوسف رمو هذه القصة المؤثرة التي سمعها بدوره من المرحوم حنا ايوب رمو.
“لقد كان المرحوم حنا ايوب رمو مع المرحوم بيبو اسطيفانا في زيارة لمدينة دهوك لجولة تفقدية بين سوق الغنم والقصابة وكانت مهنتهما تربية الاغنام والمواشي والتجارة بها، ولم يكن احدٌ يتقن هذه المهنة اكثر من المرحوم حنا رمو نفسه حيث كان خبيرا في مهنته تلك. واثناء وجودهما في سوق القصابين في دهوك طلب احد القصابين منهما ان يرافقوه الى قطيع جيد من الغنم بالقرب منه. لقد تفحص المرحوم حنا رمو بعض من هذه الاغنام ونظر اليها نظرة تاجر الغنم المحترف، وعندما سأل عن ثمن القطيع، تراجع عدة خطوات الى الوراءلانه لم يكن بحوزته المبلغ الكاف لشراء ذلك القطيع باكمله. لقد استمر المرحوم حنا رمو بمعاينته لهذه الاغنام مرة اخرى ولنفس القطيع، وكل مرة يذهب بعيدا ويرجع الى نفس القطيع وفي نيته شيء ما، وهو شراء هذه الاغنام. لقد اثارت رغبة المرحوم حنا رمو في شراء القطيع صاحب القطيع نفسه، وسأل تاجر الاغنام الكردي المرحوم حنا رمو ان كان يريد شراء القطيع، فاجاب العم حنا رمو: نعم ،لقد جئت اليوم فعلا لشراء الغنم ولكن المال الذي احمله لا يكفي لشراء قطيعك الجيد، لذا لا اتمكن من شرائه وليكن حلالا لغيري من التجار. فرد عليه الكردي: ومن اي بلدة انتم يا عم؟ فاجاب العم حنا رمو: نحن من بلدة القوش. فرد عليه الكردي: وهل تعرفون الدكتور حنا زلفا؟ قالوا: نعم، انه من فخر رجال القوش وهو قريب لنا. فقال لهم: احملوا القطيع الى القوش وليكن حلالا لكم ومتى ما تتمكنوا من توفير المال اجلبوه لي.”
هذه القصة هي من احدى القصص القليلة التي تشهد بانسانية واخلاص هذا الرجل لاخوته من بني البشر. المرحوم حنا زلفا لم يكن ليفرق بين الناس، فالجميع كانوا له اخوة في الانسانية.
لقد كتب المرحوم حنا زلفا في اوراقه بتاريخ 24 حزيران 2011 في ديترويت عن خدمته في جبال كردستان النص التالي:
” بدات رحلتي الى كردستان العراق على اثر تركي للعمل بسبب المضايقات السياسية في بغداد عام 1963، حيث سافرت الى القوش ومنها الى شمال القوش حيث استقبلني المرحوم (حسو ميرخان) في شمال عين سفني، وبقيت عنده ما يقارب السنة لعلاج المرضى هناك. بعد ذلك التحقت بالمرحوم السيد (اسعد خوشوي) وأُرسلتُ من قبله الى المرحوم (عيسى سوار) بقرب زاخو وبقيت على اتصال صميم معه على طوال مدة بقائي في كردستان ولمدة سبع سنوات. وعندما ازداد عدد الجرحى المصابين من جراء القصف المتواصل، طلبت من عيسى سوار ان يجد حلا لهذه الحالة الخاصة بالبشمركة المحاربين. اعطيت الصلاحيات لفتح مستشفى في قرية (باطوفة) شمال زاخو، مع ملحق صحي اخر في منطقة عشائر كلي. وعلى اثر افتتاح الملحق في اكبر كهف في منطقة عشائر كلي، استطعت ان احمي المرضى من القصف المتواصل على القرى ومن ضمنها باطوفة.”
اما عن خدماته الطيبة والانسانية التي كان يقدمها للشعب الكردي في ظروف الحرب تلك والمواجهة فيقول:
“مارست خدماتي الطبية بين مستشفى باطوفة عندما كان قصف الطائرات يتوقف قليلا، وبين الكهف عندما كانت تتصاعد حالات المواجهة والقصف. وكانت تتوافد اعدادا كبيرة، وبالمئات يوميا، الى المستشفى ومن جميع المناطق المجاورة (القريبة والبعيدة) يسعون ويطلبون العلاج لجراحهم وامراضهم.
لقد كانت المساعدات الطبية ترسل لي وباستمرار وحسب حاجتنا للعلاج من قبل اسعد خوشوي وعيسى سوار، حيث تفاوتت حالات المراجعين من حالات مرضية اعتيادية الى حالات معقدة طبيا.”
ويتذكر المرحوم حنا زلفا حالة انسانية كبيرة لانقاذه احد مرضاه وزيارته للبرزاني من اجله حيث يقول:
“كنت وبكل تفان واخلاص اقدم جهدي لانقاذ حياة مرضاي، ومن ضمن تلك الحالات المستعصية، كانت حالة السيد فريق .. ابن مختار قرية باطوفة لسنة 1966-1968 … حيث كان قد فقد معظم اجزاء وجهه ولم يبق له منها الا عيناه.. فقمت بمعالجته والاعتناء به شخصيا ولمدة ثلاثة اشهر.. كنت اطعمه ثلاثة مرات في النهار ومن خلال الانابيب.. كل هذا قمت به على امل ارسال السيد فريق الى لندن لاكمال علاجه.
كان هناك اشخاص مقربين للقائد الملا البرزاني عارضوا رأيي لارسال السيد فريق للمعالجة، وعلى اثر ذلك، قصدت الملا البرزاني شخصيا في (سوران)، وشرحت بحضرة شخصه العزيز هذا الموضوع واهمية ارساله للسيد فريق، وعلى اثر تلك المقابلة امر بالسماح له بالسفر خارج العراق وهكذا استمتع السيد فريق بعلاج جيد وانقذت حياته من موت محقق.
كانت علاقتي الحميمة مع البرزاني موقع ثقة وتقارب شخصي في قضايا عديدة، حيث كانت مجالسه واحاديثه في السياسة والحياة الاجتماعية مليئة بالحكمة والصواب وبكل ما يتعلق بالحركة الكردستانية.”
وقضية علاج السيد فريق بالذات كانت كبيرة انذاك حتى ان الدكتور محمود عثمان والسيدان ادريس ومسعود البرزاني كانوا على علم بها.
وعن علاقته المباشرة مع البرزاني والصلاحيات الكبيرة التي كان يتمتع بها المرحوم حنا زلفا يقول:
“السيد البرزاني كان على علم بكل ما كنت اقوم به من خدمة مخلصة لكل حالات المرضى للشعب الكردي ابان اقامتي في شمال العراق، وعلى اثره أُعطيت الصلاحية الكاملة للقيام باي مشروع يسعى لتخفيف آلام الشعب الكردي.حيث قمت بمشروع شق الطريق بين باطوفة والقرى المجاورة لتسهيل عملية نقل الجرحى والمرضى، واستمر هذا المشروع لمدة خمسة سنوات، وحسب الظروف المسموحة لنا انذاك من جراء القصف المستمر للقوات الحكومية. ان فتح الطرق في الجبال الوعرة كانت عملية ناجحة لمساهمة كل الطيبين من الاخوة الاكراد والعشائر في كل المناطق المجاورة. وانا شخصيا قمت بالذهاب الى المرضى والجرحى في مواقع جبهات القتال، حيث كان يصعب على المرضى المجيء الى باطوفة. وكان البرزاني قد جهز لي بسيارة من اجل تسهيل عملية نقلي وتقديم خدماتي الصحية والطبية لاكبر عدد ممكن من البشمركة. ولم يبخل البرزاني باي شيء كنت اطلبه لتجهيز المستشفى، حيث كنت قد جُهزتُ بجهاز لاسلكي للاتصال به مباشرة في اي وقت كان.”
وخلاصة لتجربته في كردستان يقول المرحوم حنا زلفا:
“خلال وجودي ولمدة سبع سنوات في كردستان كنت امارس مهنتي بكل اخلاص امام الله والناس، وكنت اشعر ان الجميع يخصني بالود والاحترام حيث لمسوا العلاج والرعاية من كل الكادر الذي كان بخدمتهم ومجانا وكما ارادته قيادة الحركة الكردية انذاك”.
وقبل ان يودع جبال كردستان كان المرحوم حنا زلفا كان قد ارسل رسالة الى الملا مصطفي البرزاني واهداه فرسه الخاص، وفي رد لهذه الرسالة والهدية كتب البرزاني:
حضرة عزيزي الفاضل الدكتور حنا المحترم
بعد السلام والاحترام
نرجو لكم الصحة والموفقية في عملكم الانساني. استلمنا رسالتكم المؤرخة في 14-8-1968م واطلعنا عليها بسرور. كما وقد وصل الاخ نعمان عيسى ومعه الفرس التي ارسلتموها الينا ونشكركم جزيلا ونقدر شعوركم الطيب.
وهذا دمتم موفقين
البرزاني مصطفى
29-8-1968
لقد انجبت القوش الكثير من الرجال الذين طرزوا صفحاتها باوراق من عز وافتخار والمرحوم حنا زلفا احدهم. لقد عمل المرحوم حنا في الخفاء، وكل ما عمله لابناء جلدته خارج نطاق عمله الرسمي كان من اجل الانسان نفسه، حيث كان بيته مضيفا مفتوحا لكل من يحتاج الى معونة صحية او استشارة طبية ولم يكن يبخل بهما ابدا. لقد عمل هذا الانسان لغيره اكثر مما عمل لنفسه، ولم يفكر يوما بنفسه او في الشهرة والمال والسلطة،وهو من القلائل الذين قابلوا الخالد ملا مصطفى البرزاني ولعدة مرات حيث كان المرحوم حنا زلفا يرسل اسماء الجرحى الذين يتحتم معالجتهم في الخارج. لقد عمل حنا زلفا كمستشفى ميداني واستقبل جرحى النضال العراقي-الكردي حينها واستحق الشكر والثناء من هذا القائد الكبير واثناء زيارته الاخيرة للوطن عام 2007حيث استقبله الجميع هناك بحفاوة كبيرة وابدى نصائحه الكبيرة التي استلهمها من فكر الثورة نفسها.
لا توجد شخصية ارتبطت اسمها بين القوش وكردستان مثل شخصية الاستاذ المربي الفاضل عبد جبرائيل رزوقي. انه يتذكر الاحداث والوقائع التي مرت بها القوش والمنطقة باكملها منذ فترة الستينات ولحد الان، ورغم اقامته اليوم في ميشغين، والتي لا تستحسنه ابدا، الا انه دائما تجده في وقائع تلك الفترة، ليس فقط الاحداث السياسية الرئيسية ولكن ايضا الكثير من الاحداث الاجتماعية والانسانية والذي كان له دور كبير فيها. ليس هذا فقط ولكن بامكانه من قول الحقيقة من دون خوف او تزويق او تلوين لها، ورغم ان بعض احداث التاريخ لا يمكن البت فيها الا اذا تم روايتها من عدة جوانب وزوايا، الا انه يحتفظ بالكثير من تلك الحقائق التي اصبحت بالنسبة له عبئا كبيرا اراد في البداية تدوينها، وبدأ فعلا بذلك، ولكن لا تستسيغه الموجة الحالية من الكتابات، وخاصة في الانترنيت، بسبب عدم حياديتها. ليس فقط التاريخ المحلي هو من اهتماماته ولكن ايضا الشعر، حيث نظم الكثير من القصائد سواء في اللغة العربية او السورث. لقد حدثني، في مكالمة دامت اكثر من ساعة ونصف، ورغم انشغاله بضيوفه الكرام، ولكن لم يبخل ابدا بوقته وذاكرته الثاقبة، رغم انه يعتقد بانها اصبحت تخونه احيانا، عن حياة العديد من الشخصيات التي كان لها دور كبير في احداث وتاريخ القوش الحديث. وللاستاذ عبد جبرائيل رزوقي اسلوب شيق في سرده لهذه الاحداث بتفاصيلها الدقيقة بحيث يجعلك ترجع الى عقد الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي احيانا.
وعندما سالته عن سيرة المرحوم حنا حسيب زلفا، حيث يعرف عنه اكثر مما يعرف اخرعنه.
حيث يقول هنا: المرحوم حنا زلفا كانت تعرفه كردستان باكملها وخاصة قاطع بادينان. لقد انقذ حياة العشرات من الجرحى من البشمركة من الموت بعمليات جراحية معقدة كان يقوم بها من دون خوف او تردد. لقد كان لنا طبعا ايضا اعداد اخرى من الممرضين والمعالجين، لانه لم يكن لنا اطباء في تلك الفترة، ولكن اسم وشهرة واخلاص حنا زلفا للحركة الكردية وابناء المنطقة كانت تفوق الاخرين جميعا.
ورغم اني اردت طرح بعض الاسئلة عن تلك الفترة، واخرى للتاكيد مما ورد في اوراق المرحوم حنا زلفا نفسه، الا ان ما رواه لي الاستاذ عبد جبرائيل رزوقي اكثر وادق في تفاصيله، وخاصة من ناحية التواريخ واسماء الاشخاص ورتبهم ومسئولياتهم واسماء البلدات والقرى والجبال والوديان من الملخص الذي تركه لنا المرحوم حنا زلفا.
لقد بدات بطرح الاسئلة منذ ان ترك المرحوم حنا زلفا، ومع عائلته بغداد والالتحاق مع الثوار في البداية، مع الشيوعيين عام 1963، حيث كان يقدم جميع خدماته الطبية في مارقرداغ ومن ثم في دير الربان هرمزد، ثم بسقين وشلاي وسيداي، ولكن ولسوء التفاهم بينه وبين الشيوعيين، واختلاف الراي معهم، جعله يتركهم في النهاية. ثم دعاه حسو ميرخان، حيث كان امر مقر اللجنة المحلية للحزب الديمقراطي الكردستاني في شمال شيخان، حيث كان مقره في قرية بلان. وهنا تسلسل الاحداث واسماء القرى والبلدات والقادة من عيسى سوار، حيث يبدأ هنا الاستاذ عبد رزوقي بتلاوة اسماء هذه الاماكن وكانه امامي اطلس تاريخي لتلك الاحداث، ولكن ومع الاسف ليس بامكاني من كتابتها بتلك الدقة التي سمعتها منه. القادة الاكراد الثلاثة الذي تكلم عنهم وهم: حسو ميرخان، عيسى سوار واسعد خوشوي قاموا باحتضان حنا زلفا وقدموا له كل الخدمات من اجل ان يكون بامكانه من انجاز عمله الصحي والانساني للشعب الكردي في فترة كانت الامراض تفتك بالاطفال والكبار ومنها مرض الملاريا، حيث انقذ العديد منهم من موت محقق بسبب رعايته وعلاجه لهم من تلك الادوية التي حصل الثوار عليها من مستوصف تللسقف.
يقول الاستاذ عبد جبرائيل رزوقي ايضا بان جميع مرضى كردستان، ومن منطقة عقرة والى زاخو كان يتم ارسالهم الى عيادة (الدكتور) حنا زلفا، مما دعى الاكراد ليخلصوا له ايضا. لقد كان المرحوم حنا زلفا قد انقذ زوجة اسعد خوشوي من موت محقق في حينها، ولما اصطحبته عام 2006-2007 لزيارة برزان واولاد واحفاد تلك القادة، تعجبت من ذلك التقدير والاخلاص الذي يكنه الشعب الكردي ولغاية اليوم له، ولحد الان لاعمال وشخصية الانسان و(الطبيب)المرحوم حنا زلفا. وعندما سمع سليم اسعد خوشوي بوجود حنا زلفا معي، امتلاته الفرحة والبهجة، واحتضن المرحوم حنا واستقبله وربما لا ابالغ باكثر حرارة مما يقوم به الاخ لاخيه. جميع ابناء البرزاني استقبلوا المرحوم حنا زلفا وقدموا له الشكر والثناء لاعماله التي لا ينساه الشعب الكردي يوما ما. وهنا لا بد لي، وهنا القول للاستاذ عبدجبرائيل رزوقي، ان اقول بان للشعب الكردي ميزة وصفة خاصة وهي بردهم الوفي لكل من اخلص معهم في محنتهم وتاريخهم. ورغم ان المرحوم حنا زلفا لم يكن سياسيا، الا انه قدم وفاء واخلاصا اكثر بكثير من افراد البيشمركة نفسهم. ستظل جبال واودية كردستان تتذكر هذا الرجل النزيه الذي لم تلده ام ثانية.
وقد كتب عنه الاخ الكاتب نبيل دمان في رثائه لهعام 2013 ما يلي:
“اتذكره جيداً في مقر الأنصار بدير الربان هرمزد عام 1963 بقامته المديدة والسلاح الخفيف الذي كان يتمنطق به، فالعاملين في الاعلام والطبابة عادةً يشدّون مسدساً بارزاً في جانبهم الأيسر، هكذا رأيته امامي ولم تفارق مخيلتي هيبته وهو في قمة عطائه وشبابه، لقد افتتح شبه غرفة عمليات للمرضى والجرحى من قوات الانصار، فتحت مراقي الاربعين ( درواثه دأربي) هناك صومعتان للرهبان (قلياثه) متجاورتين اتخذهما كمستشفى صغير، وكان الى جانبه شقيقه عبد الجليل الذي كان هو الاخر ثائراً في تلك الايام المجيدة من حياة المناضلين. كان يمتلك الخبرة الجيدة في اجراء عمليات جراحية ناجحة، أتقنها في عمله ببغداد على ايدي أطباء ماهرين، هكذا تمت معالجة العديد من حالات الاصابة في صفوف الانصار، اذكر منهم المرحوم بطرس سليمان گولا الذي عالج جراحه العديدة جراء اصابته البليغة جراء قصف طائرات الحكومة منطقة( برگاره) في أعلى الدير، وكذلك عالج اصابات الجرحى في كمين تعرضوا له في مدخل وادي الدير وهم كل من : هرمز داود، سعيد سليمان بطّه، وأيشعيا أيشو(ابو نبيل) من سرسنك”.
ويروي الكاتب نبيل دمان تفاصيل حادثة المدفع الذي انفجر بالثوار حينها ويقول:
“وهناك حادثة وقعت في وادي الدير آنذاك اي قبل حوالي ستة عقود، النصير عابد دنحا من عنكاوا (عنكوايا) وهو كهرائي في مهنته قبل الالتحاق بالثوار، حاول صنع مدفع وهكذا وصل الى مرحلة تجربته، فوضع القنبلة وأطلق فانفجرت قبل خروجها من السبطانة واصابت العديد من الانصار بجروح، ومنهم الرفيق الخالد توما توماس حيث اصيب في احدى رجليه، وتمت معالجتهم بنجاح على يد( دكتور) حنا والذي ذاع صيته وليس مصادفة بأسم الدكتور حنا زلفا، من الملفت في ذلك الحادث ان أبا جوزيف لم يبلغ أسرته بما حصل، ولكنهم عرفوا باصابته عندما ارسل ملابسه للغسل في البيت، فكانت آثار الدماء ظاهرة على سرواله الانصاري( پشمه)، فهرع اولاده حالاً الى الدير الأعلى للأطئنان عليه، فوجدوه يتعالج على يد خالهم حنا زلفا .في فترة لاحقة عمل قريبا من القائد الكردي المعروف أسعد خليل خوشفي في مقره بوادي( قمرية) شمال قرية( تشيش) في منطقة برواري بالا وكذلك عمل قرب آمر هيز زاخو عيسى سوار البارزاني في گلي زاخو، وصار معروفا بإمكاناته الطبية والمستشفى الجبلي! الذي اقامه هناك وقد عالج فيه عشرات البيشمركة، وكان معه من بلدته كل من المرحوم اوگر ابونا وعابد هرمز كادو، اصبحت له علاقات واسعة مع اهالي تلك المنطقة.”
اما المرحوم الكاتب حبيب تومي فقد كتب مداخلته هذه حول رثاء الاخ نبيل دمان للمرحوم حنا زلفا وقال:
” انها التفاتة كريمة ان ترثي الراحل حنا زلفا، في اخر سفرتي الى اميركا حرصت ان التقي بالأنسان الطيب حنا زلفاً، الذي لم تكن الأبتسامة تفارقة ابدا، وروحه المرحة. في عقود النصف الثاني من القرن الماضي، طبقت شهرة (الدكتور) حنا زلفا الأفاق وكانت كوردستان في تلك الفترة تعرف الدكتور حنا زلفا . وقبل التحاقه بالثورة الكوردية كان المرحوم حنا زلفا قد كسب خبرة وتجربة كبيرة في مجال الجراحة في مستشفيات بغداد، وحينما التحق مع الثوار في جبال كوردستان، اخذ يزاول معالجة الأمراض المختلفة التي كانت منتشرة في تلك الفترة وبتلك الظروف لا سيما مرض الملاريا.
وكنا قد جلبنا له ادوية مستوصف تللسقف في بداية الثورة، وأقصد فترة ثورة ايلول وبالتحديد في عام 1963 وما بعدها، وقام هو بتصنيف الأدوية التي جلبناها للأستفادة منها ولاسيما الدواء المعروف بـ (كنين) لمعالجة الملاريا التي كانت تفتك بالمقاتلين وأنا احدهم، وأعترف بأن الدكتور حنا زلفا كان من عالجني بكفاءة، رغم خطورة حالتي، وكان مقرنا في وقتها ببناية مار قرداغ.
لقد كان المرحوم حنا زلفا معروفاً للقيادة الكوردية وبالذات من قبل قائد الثورة الكوردية المرحوم ملا مصطفى البارزاني الذي كان يكن له احتراماً وتقديراً .
ويسترسل الكاتب المرحوم حبيب تومي في ذكرياته مع المرحوم حنا زلفا في كردستان ويقول:
“ذكريات كثيرة لنا مع المرحوم حنا زلفا، وحينما التقيته في اميركا، سردت له إحدى الوقائع فكانت نفسه تنشرح ويسترسل بالضحك والتعليق .حيث كانت منطقتنا خالية بسبب تسليم اغلبية عشيرة المزوريين للحكومة، وفي قرية بالقرب من جبل كارا كنت في مراجعة مع الدكتور حنا زلفا، وفي وقتها كان ينبغي الأنسحاب من تلك القرية،ولكن كانت هنالك مجموعة كبيرة من الأدوية الضرورية للعلاجات، وكلفني المرحوم حنا ان ابقى في القرية الى ان يرسل لي دواب لكي ننقل تلك الأدوية الى الخطوط الخلفية.فسألته في حالة بقائي ومغادرة كل اهل القرية ماذا يمكن لي ان اكل من طعام؟ فقال ربما بحدود نصف نهار سوف يُرسل الدواب، لكن من باب الأحتياط دلني على قارورة فيها عسل صاف، يمكنني تناوله لكي اسد فيه رمقي. ولكن الذي حدث هو ان الدواب تأخر قدومها الى اليوم التالي مساءً، فكان علي تناول الغذاء من ذلك العسل فقط ولا يوجد غيره، فمللت من طعم العسل ولم استطع بعد ذلك بالنظر اليه، إذ كانت وجبة الغذاء الوحيدة ل 6 مرات متتالية من العسل فقط. لقد سردت الحادثة له وتذكرها وذكر لي اسم القرية والمناسبة .
كل من عرف حنا زلفا احبه وأحترمه، فعمله الأنساني اولاً وجماله الروحي وإنسانيته الجميلة العذبة وخبرته الكبيرة ثانيا.”
لنرجع مرة اخرى الى ما تختزن ذاكرة والدي داويذ كبو رمو حول المرحوم حنا زلفا، حيث كان قريبا منه دائما ويعرفه كانسان وصديق، ورغم ان والده المرحوم حسقيال زلفا كان ضريرا ولكنه كان ذكيا جدا حيث تمكن جميع ابناءه من الوصول الى درجات جيدة من العمل والوظيفة والمستوى الاجتماعي، وايضا وبجهود المرحوم حنا زلفا نفسه، حيث تكفل باخوته جميعا الى ان وصلوا الى اهدافهم بعد الدراسة والتوظف. وعندما كان المرحوم حنا زلفا يعالج ويضمد المرضى من ابناء بلدته لم يكن يستلم منهم الا اجور الدواء الذي كان يشتريه من مذاخر الموصل. في البداية اقام عيادته في احدى غرف بيت جيراننا المرحوم بيبي تولا، ثم نقلها الى بناية مارقرداغ حيث كانت قوات القائد الاثوري (طليا) هناك. ويتذكر والدي بانه كانت تاتي اليه سيارة اجرة تنقله من البيت الى عيادته وبثمن 250 فلسا.
وبعدها انتقل الى دير الربان هرمزد ثم الى بسقين وبعدها تلك السيرة التي كتبها المرحوم بنفسه من محطات اخرى في جبال كردستان. يقول والدي بانه كان للمرحوم حنا زلفا ميزة خاصة قليل من الناس كانت تمتلكها، فرغم ان تعليمه لم يكن عاليا، الا انه كان له علاقات على مستوى القيادات. حيث في الشمال كان له معرفة شخصية مع المرحوم القائد مصطفى البرزاني، اما في بغداد، ولانه كان مدير عيادة الدكتور جابر محسن، طبيب الرئيس البكر حينها، فكثيرا ما كان يطلب منه ان يرافقه الى مجلس المرحوم البكر ولكن المرحوم حنا زلفا كان يرفض ذلك. وفي احدى المرات ارسل البرزاني احد افراد عائلته الى العلاج في بغداد، وطلب منه لذلك ان يتصل بالمرحوم حنا زلفا، حيث جاء لعيادته وادخله الى غرفة علاج الدكتور جابر محسن، عندها عرف جابر بانه من اقارب البرزاني. فقال له: ماذا فعلت بنا يا حنا؟ هل تريد ان يشنقني البكر؟ فرد عليه المرحوم حنا زلفا: انه مريض وجاء للعيادة كاي مريض اخر وادخلته اليك ليس كاحد اقارب البرزاني ولكن كاي مريض اخر له الحق في ذلك.
وعندما كان المرحوم حنا زلفا يقيم في القوش تمرض وسائت صحته وعلم بذلك البرزاني فارسل له سيارة مع بعض البيشمركة ونقلوه الى بغداد للعلاج. وعندما سالت والدي وكيف كان يتم ذلك والطرفين في نزاع؟ فاجاب بانه كانت هناك لجان من الحكومة والاكراد تنظم مثل هذه الزيارات اثناء فترات الهدنة. يقول والدي بان المرحوم حنا زلفا لم يكن يذهب ابدا الى السوق او الجايخانة كبقية الرجال، بل يقضي جميع اوقاته بين العمل سواء في المستشفى او العيادات المسائية. كان يذهب احيانا عند صديقه المرحوم وديع كجو ليتسوق منه الادوات الاحتياطية لسيارته البرازيلي.
وعندما اخبرت خالي الكاتب الاستاذ هرمز كوهاري باني مشغول بكتابة السيرة الشخصية للمرحوم حنا زلفا، وطلبت منه ان يسترسل بذكرياته حوله حيث كتب لي:
“المرحوم حنا (حسقيال) زلفا كان طالبا في الصف السادس الابتدائي وانا في الصف الاول في مدرسة مارميخا في القوش، وكان بيتهم في سوق القوشواعتمادهم كان على (تنعيل) ان صح التعبير للدواب (منالاني دقنياني) وإيجار الدكانين للعم صادق توماس وشمو توماس، فاضطر بعد الصف السادس الهجرة الى بغداد طلبا للعمل، حيث عمل في احدى المستشفيات، واثبت جدارة في تعلم مهنة التمريض، وتمكن من الاحتكاك بالأطباء وخاصة الجراحين منهم، وفي سنة ١٩٥٦ اجرى لي الدكتور غانم عقراوي عملية استئصال احدى الكليتين في مستشفى الراهبات، فقلت له من هو مساعد الطبيب؟فاجاب: بانه ابن بلدتك حنا حسقيال زلفا!! ثم عمل في عيادة طبيب مشهور في المجاري البولية (جابر محسن) الذي كنت أراجعه !! التقيت به كثيرا في المناسبات بطريق الصدفةواحيانا في الحفلات وكجار مقرب جدا وكل أفراد العائلة كانوا من معارفنا المقربين.اخوه المرحوم يونس زلفا كان صديق اخي المرحوم الياس كوهاري والمرحوم إبراهيم القس كان صديقي حيث كنا ندرس معا ونلعب معا ونرعى (الربيط) معا، واحيانا نكون ثلاثة: ابراهيم القس وإبراهيم كجو الذي صار مطران اسطيفان وانا،وبحكم الجيرة والسلوك الهاديء المطيعين للأهل والكنيسة !! كان حنا إنسانا مسالما مخلصا في عمله واظهر مهارة فائقة وجرأة في تعلم التمريض وسمعت انه في الشمال يعمل كطبيب عند الحاجة وهذه تحتاج الى جراة لتحمل المسؤولية، في بغداد لم اجده يوما في مقهى او كازينو او بار، اكثر أوقاته وحسب علمي كان يعمل صباح ومساء مع الأطباء المشهورين في عياداتهم الخاصة، لم اسمع عنه الا الاخلاص في العمل واحترام الأهل والمعارف.”
ولحد الان كتبت ما قاله الاخرين عن المرحوم حنا حسيب زلفا، ولكن اذا اردت ان اكتب عنه بالتفصيل فان صفحات كتاب كامل وكبير لا تكفي بحق هذا الانسان الذي عرفته عن قرب في العقد الاخير من القرن الماضي واثناء عملي في بغداد. يوم الجمعة صباحا، ومن كل اسبوع كنت ازور العم حنا زلفا في بيته في شارع فلسطين. هكذا كنت ابدأ عطلتي الاسبوعية بالاستمتاع بمجلس العم حنا سواء صيفا كان او شتاء. في الصيف كنا نجلس تحت سقيفة البيت الامامية الباردة، حيث كان قد هيأ كل شيء قبل وصولي. ورغم ان نهاره كان يبدأ مبكرا، حيث تجده دائما مشغولا في تعديل وتصليح وتثبيت اي شيء قد نقص سواء في السيارة او البيت. لقد كانت احاديثه الممتعة والغنية بمعانيها الانسانية والفلسفية نتيجة خبرته الحياتية التي جعلت منه انسانا يعرف قيمة الوقت والانجاز وكفاءة العمل.
وكما قال الكثيرون عنه بان العم حنا لم يكن يهدر وقته بالذهاب الى المقهى او النادي الا ما ندر، حيث بيته كان ورشته الكبيرة في كل شيء، ورشة صحية واخرى ميكانيكية، كان للعم حنا هواية اقتناء السيارات القديمة في السبعينات، حيث كان يزهو ويفتخر بقيادته للشوفيرليت 56 التي كانت تليق بمقامه الكبير. وعندما كان يقتني سيارة ما، كان يعتني بها وكانها فرسه الذي اهداه للبرزاني.
مجالس العم حنا كانت مجالس ممتعة حقا. بصوته الهاديء ونظراته الثاقبة كان يحلل جميع الامور الاجتماعية والسياسية حينها.
العم حنا، وحتى بعد تقاعده من العمل في المستشفى، لم تنته اعمال خدمته الانسانية في معالجة الاقارب والناس المحبين له. وهكذا انا ايضا، حيث وقبل ان كنا ناخذ اي قرار بزيارة اخصائي او القيام بعملية جراحية كانت استشارة العم حنا زلفا، ورغم انزعاج بعض الاطباء المقربين من ذلك، هي التي تحدد ذلك الاخصائي وتلك المستشفى. كان يرافقنا جميعا للذهاب الى عيادة الاطباء الاخصائين الكبار في بغداد، وكان في يوم العملية نفسها يحضر بشخصه الى المستشفى، وغالبا ما كان يختار مستشفى الراهبات، ويقوم بنفسه بتدقيق كافة الاجراءات قبل العملية، ويبقى حاضرا اثناء العملية وبعدها، ثم غالبا ما كان يحضر اياما عديدة ومتتالية لتفقد المريض والاطمئنان عليه. ان حضور العم حنا نفسه فقط، كان المريض يحس بالامان وهو تحت اشرافه، ودائما كانت اختياراته صحيحة نظرا لخبرته الكبيرة في الجراحة.
في نهاية المطاف كان على حنا زلفا وعائلته الهجرة من الوطن والأستقرار في مشيغن – اميركا، الى ان وافتهالمنية يوم الأحد المصادف 6 ـ 10 ـ 2013
المرحوم حنا زلفا من مواليد 1925 متزوج من ميعاد (ميلاني) يوسف رمو واولاده ليث، نيران، تانيا، وئام،بان، رنا.
لقد رحل العم حنا زلفا عن عمر يناهز 88 سنة في هدوء رباني بين احضان احبائه واحفاده ومحبيه. لقد رحل عنا وترك موروثا انسانيا نفتخر به. لقد عاش وعمل من اجل الانسان فقط. انه يستحق حقا ان يتم الاحتفاء به في كردستان باسم احد شوارعها او في القوش بلدته العزيزة. ان القوش نفسها ستتذكر وستفتخر وتعتز بابنها البار حنا.
ملاحظة: شكرا لجميع الذين ساهموا في محتويات هذه السيرة وكذلك للذين سيدلوا بمداخلاتهم التي ستغني هذه السيرة سواء في اضافة تفاصيل لها او تعديل وتصحيح الاخر.
الصور جميعها من ارشيف المرحوم حنا حسيب زلفا:
1- صورة للمرحوم في الثمانينات
2- صورة للمرحوم عام 1952
3- صورة للمرحوم مع احدى لقاءات البيشمركة في كردستان في الستينات.
4- صورة للمرحوم بالملابس التراثية
5- صورة لمدرسة مارميخا في القوش في الثلاثينات من القرن الماضي
6- صورة للطالب حنا في مدرسة مارميخا
7- صورة للمرحوم حنا حسيب مع زملائه في بغداد اثناء العمل.
8- صورة لعام 1947 اثناء زيارة المرحوم حنا لصديقيه يلدا وشعيا في مستشفى الرشيد العسكري.
9- صورة للمرحوم حنا حسيب زلفا مع عقيلته ميعاد كبو رمو في بغداد في منتصف الخمسينات.
10- صورة للمرحوم حنا حسيب زلفا مع عائلته واصدقائه الاكراد في نهاية التسعينات.
11- صورة للمرحوم في العقد الاخير من عمره.