عماد رمو/ هولندا نيسان 2020
في 8 شباط الماضي انطفأت شمعة انارت طريق عدة اجيال في نيل المعرفة والعلم. شمعة انسانية وهبت نفسها من اجل الاخرين. معلم ترك بصماته في عدة اجيال، هذه الاجيال التي صنعت مستقبلها بسبب عطائه الكبير. لقد رحلت عنا شخصية القوشية عُرفت بالاخلاص والتقوى وخدمة الاخرين وفي جميع المجالات. شخصية رسمت جزءً من الهوية الالقوشية الكبيرة. المرحوم حنا هرمز كريمة (ابو منهل) مثال للمعلم الذي اعطى الكثير لطلبته سواء في تعليمهم الابتدائي او في تربيتهم وتنشأتهم كرجال للمستقبل، المستقبل الذي توعده الجميع بالخير والاستقرار والتقدم لوطن افنى شبابه من اجله ولكن في نهاية المشوار اصبح الماضي اجمل بكثير من المستقبل الموعود.
المرحوم حنا (بيبو) هرمز كريمة حنا ولد في القوش عام 1935م وحسب سجل العماذ فقد تعمذ في دير السيدة العذراء حافظة الزروع شرق القوش. وكعادة الاباء حينها حيث كانوا يسجلون اطفالهم احيانا بجنسيات من توفى من قبلهم او بعدهم. وهكذا بالنسبة للمرحوم بيبو اخذ جنسية اخيه حنا المتوفي عام (1939) لذلك اصبح له اسمان بيبو وحنا. والدته هي المرحومة وردة متي كجوجا. اما والده فهو المرحوم هرمز حنا كريمة حنا واخته الوحيدة هي المرحومة صلحى زوجة المرحوم ياقو ايشوع رحيمة. اما اخوته فهما التوأم ابلحد والمرحوم حميد، وكان له اخوة توفوا وكالعادة وهم اطفال.
ولكن لماذا كان المرحوم حنا (بيبو) يلقب بقيطايا ايضا؟
ولهذه التسمية قصة واقعية ورغم ان اكثر الناس سابقا كانت لهم عدة اسماء ولاسباب انثروبولجية كثيرة، ومن الصعب ان تجد رجلا في القوش في تلك الفترة كان يسمى باسمه الصحيح. احيانا لكي لا يحسد الطفل عند ولادته لان احتمالية تجاوز الطفل هذه المرحلة كانت قليلة جدا بسبب الامراض والاوبئة والجهل.
يقول صديقي ساهر حنا عن هذه التسمية ما يلي:
“لقد كانت مهنة جدي حنا (اي والد هرمز) الفلاحة، وقد طلب وبشفاعة القديس الربان هرمزد الالقوشي ولدا له كي يساعده في الزراعة. ولما رزقه الله بولد، سماه هرمز تيمنا بهذا الراهب القديس الذي يعتبره ابناء القوش من اهم القديسين في كنيسة القوش والمنطقة. ولكن الطفل هرمز ولد متأخرا وكان يقول والده دائما بان هرمز سيتبعني ويساعدني في الزراعة وكما يأتي احيانا الزرع الصيفي متأخرا (عندما تاتي الامطار متاخرة في السنة يتأخر اكتمال الحنطة في السنبلة ويتأخر الحصاد)، وكان ابوه يكنيه بقيطايا (الصيفي) وسارت هذه الكنية عليه وغلبت على تسمية الاصل الحقيقية (هرمز). وكان للمرحوم الجد حنا كريمة بنتان، حبي زوجة لويس كمون واسومة وكان زوجها من بيت العوصجي.”
اما اصل عائلة “كريمة” فهو من عينكاوة، حيث الجد الاكبر حنا كان قسا متزوجا يخدم كنيسته في عينكاوة بكل تقوى وطاعة لرؤسائه. وكان له ثلاثة اولاد، كريمة ورحيمة وججي واختهم الوحيدة اشا، وكانت تسمى ايضا الراهبة لانها لم تتزوج لتعتني باخوتها بعد وفاة امها.
اما عن سبب مجيء عائلة كريمة الى بندوايا ومن ثم القوش فهذه روايتها وحسب ما رواه لي صديقي ساهر حنا كريمة.
“في عام 1977م التقيت ومع اخي فائز بالمرحوم الخوري هرمز صنا (خوري كنيسة القوش) من اجل البحث عن اصل العائلة وتسميتها وسبب مجيئها الى القوش، فارشدنا الخوري هرمز، حيث كانت جميع سجلات الولادة عنده، بالاتصال مع المرحوم كوريال ججي كريمة والذي كان حينها اكبر واحد عمرا في العشيرة، بحدود التسعين سنة، حيث روى لنا ما يلي:
“لقد ولدت في نفس اليوم الذي وضع حجر الاساس لكنيسة مار كيوركيس في بندوايا، حيث حضر ذلك الاحتفال حينها مبعوث الوالي العثماني في الموصل. بعد وفاة زوجته طلب جدنا القس حنا من البطريركية الكلدانية انذاك ان تسمح له بالزواج مرة ثانية من اجل رعاية اطفاله الصغار. ولكن البطريركية حينها لم تسمح له بالزواج ثانية بسبب قوانينها الصارمة انذاك، لذا اضطر ان يتزوج رغم ذلك المنع، واصبحت له مشاكل مع الكنيسة حيث استمر حينها في اقامة القداديس والصلوات ورعاية الكنيسة وابنائها. ومن اجل الهروب من هذه المشاكل في عينكاوة، اضطر القس حنا الهجرة الى دير السيدة العذراء حافظة الزروع في القوش، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبعدها استقرت العائلة في بندويا، والتي كانت من املاك الدير نفسه، وعملوا في الزراعة ولغاية اليوم.” وما زالت ولغاية اليوم سجلات العماذ وقبور الاجداد لهذه العائلة في دير السيدة شرق القوش.
اما المرحومة وردة جدة ساهر حنا فقد روت له بانه وعندما توفي الجد حنا كريمة (جد المرحوم حنا هرمز) وضع جثمانه وجبته، حيث كان حينها ايضا مختارا لقرية بندوايا، فوق فرس شقراء (سوستا كشي)، ومشوا بالجنازة من بندوايا الى دير السيدة، حيث تم دفن جثمانه هناك. ومن العوائل الالقوشية الاخرى والتي كانت حينها تسكن بندوايا عائلة اسطيفانا وعائلة تلا.
لقد عاش المرحوم حنا هرمز كريمة طفولة سعيدة في كنف والديه وبلدته ومتنقلا بين بندوايا والقوش لدراسة الابتدائية في مدرسة مار ميخا المشهورة. وبسبب سكنهم في قرية بندوايا وظروف العائلة الزراعية فانه قد تاخر عن دخول المدرسة الابتدائية مقارنة باقرانه حينها. ومن اصدقاء طفولته المعلم داويذ يوسف (كبو) رمو وجرجيس يوسف سيبو وابن عمته يوسف لويس كمون. في تلك الفترة، اي عقد الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي كانت الالة الزراعية والمكننة في بداية دخولها حقل الزراعة لذا قلت الحاجة الى الايدي العاملة للزراعية اليدوية. وبسبب ذلك اتجه ابناء البلدة الى المدارس من اجل التعلم والتوظيف في مؤسسات الدولة الاولى ومنها المدارس. وبسبب وجود مدرسة مارميخا في القوش فان الاساتذة قد شجعوا الطلاب والاباء لتكملة مشوارهم الدراسي. وبعد الابتدائية كان يعاني الاباء والتلاميذ من مشكلة ثانية، وهي ارسال ابنائهم الى احدى المدن الكبرى مثل الموصل وبغداد وكركوك لتكملة الاعدادية هناك. وبرغم الكلفة الباهظة والغربة فان القوش كانت من المدن القليلة التي ضخت اعداديات الموصل باعداد كبيرة من الطلبة ومنهم المرحوم حنا هرمز، حيث اكمل دراسته الاعدادية (التجاري) بتفوق من الاعدادية الشرقية في الموصل وحسب الوثيقة المرقمة 1479. وكان غالبا ما يُعفى من الامتحانات مبكرا بسبب ذكائه وجديته في الدراسة وكان يستغل ذلك بالرجوع الى القوش مبكرا ليساعد والده في الزراعة. وعندما كان يدرس في الموصل سكن مع بعض الطلبة من ابناء القوش ومنهم ابن خالته سماوي متي حلبي والمرحوم اوراها فدو، وسكن فترة ايضا مع بيت اخته المرحومة صلحة ومع بيت ابن عمه المرحوم يونس يوسف رحيمة والمعروف ب (يونس برد زرتا).
وبعد اكماله الاعدادية كان عليه الالتحاق بالجيش اذا اراد التوظيف في دوائر الدولة. حيث دخل المرحوم حنا هرمز كلية الضباط الاحتياط في معسكر الرشيد في بغداد بدورتها الحادية عشر من 15-12-1956 ولغاية 26-6-1957م ومنح رتبة نائب ضابط احتياط بعد ان اجتاز الدورة بنجاح، وادى القسم والسلام الملكي امام الملك فيصل الثاني. ومن اصدقائه الضباط من ابناء القوش في تلك الفترة المرحوم سليمان يوسف بوكا. وقد خدما معا في الفوج الخامس الذي كان مقره في الموصل.
يقول صديق المرحوم حنا هرمز المعلم الوالد داويذ كبو رمو بان المرحوم المعلم سليمان بوكا كان له شخصية خارزماتية بين الطلبة، لقد علم الكثير من ابناء القوش في ابتدائية مار ميخا، وكان يقول لهم ما يلي: ” في زماني (اي عندما كان سليمان طالبا في نفس المدرسة) كان يقال لنا ادرسوا كي يصبح كل معلمو المدرسة من ابناء القوش، حينها كان فقط اثنان من الكادر التعليمي من ابناء بلدتنا العزيزة القوش وهما: ايسف رئيس (باخوخا)، والياس بابا (الياس افندي) المدير”. حيث كان المرحوم سليمان بوكا معلما جيدا يعلم الطلبة الرياضيات والرياضة ولم يكن يعاقب الطلاب كباقي المعلمين، بل كان يكتفي بالنظر اليهم لينضبطوا. واعتاد المرحومان سليمان بوكا وبيبو هرمز كريمة ان يساعد كل منهما الاخر في اجازتهما لزيارة الاهل في القوش وذلك اما بارسال قسم من راتبهما الى عوائلهما او بالمواد المفقودة في القوش. وفي احدى المرات ارسل بيبو عشرة دنانير مع سليمان بوكا ليعطيها لوالده هرمز كريمة عند زيارته لالقوش. واسهل طريقة لالتقاء الناس في القوش هي الذهاب الى السوق (طبعا القديم حاليا ولكن في وقته كان الجديد)، وهناك كان المرحوم هرمز كريمة جالسا في (كركيزرته) مع عشرة من رجال القوش، وعندما وصل الضابط سليمان اليهم قاموا جميعا احتراما له وادوا التحية، فقام سليمان واخرج ورقتين (ورقتا) نقود من فئة العشرة دنانير واعطاها للمرحوم هرمز كريمة، فشكره كثيرا لذلك.
وعندما جاء حنا (بيبو) الى القوش في اجازته، قال له والده هرمز: لماذا ارسلت لي كل هذا المبلغ الكبير (20 دينارا) يا بني؟ فكم هو راتبك اصلا كي ترسل لنا كل هذا المبلغ؟ فاندهش بيبو من ذلك، ولكن لم يخبر والده بالحقيقة فقد اراد معرفة سر ذلك. وعندما التقى بيبو مع سليمان في المعسكر قال له: لماذا اعطيت لوالدي (20 دينارا) يا استاذ سليمان؟ انا اعطيتك فقط عشرة دنانير؟ فاجابه وبكل فخر: وهل كنت تريدني ان اعط له عشرة دنانيرفقط يا حنا وانا امام عشرة من الرجال؟ كنت اريد ان يرى اصدقاء والدك قيمة المعلم وان يشجعوا اولادهم للدخول الى التعليم والمدارس لذا كانت هذه افضل طريقة لتشجيعهم على ذلك!!!!
واثناء خدمة المرحوم في الفوج الخامس/الموصل وبعدها وقعت احداث الشواف، وحينها اختيرت سيرته للاستعراض العسكري لانضباطها الكبير، كما خرج بفرضيات عسكرية في منطقة راوندوز وحرير في شمال العراق. وتسرح من الجيش بتاريخ 17-3-1958.
المرحوم حنا هرمز ينتمي الى الجيل الثالث من المعلمين في القوش. وهذا الجيل حُظي بامتيازات اجتماعية جيدة بسبب مهنته المتميزة والتربوية وكذلك لارتفاع مستوى تعليمهم وثقافتهم، ولكن الامر المهم كان مستوى معيشتهم الجيدة مقارنة مع المهن الاخرى في القوش. لذا فان اكثر هؤلاء المعلمين تمكنوا من الزواج مبكرا ومن اجمل فتيات القوش وتكوين عوائل جديدة، وظهرت طبقة اجتماعية جديدة في المجتمع حينها تمكنت من بناء وتعليم اجيال متعددة كثيرة. نحن ابناء هذا الجيل ولدنا وولدت معنا المدارس وبجميع انواعها الابتدائية والاعدادية، وهذا امر لم يحظ به جيل ابائنا، حيث كان عليهم التغرب والتنقل باستمرار من اجل الحصول على شهادة المعلم والتي كانت في الخمسينات من القرن الماضي من الشهادات التي كان يتمناها كل طالب علم.
لقد تزوج المرحوم المعلم بيبو هرمز كريمة من ابنة خاله المرحومة سلمي اسعد كجوجة في تموز من عام 1958م، اي في شهر الثورة المباركة ثورة تموز المجيدة. وبعد ايام قلائل من زواجه تزوج صديقه المعلم داويذ يوسف رمو في نفس ايام الثورة فاصبحت الفرحة فرحتين واستمرت الحفلة ثلاث ايام متوالية من الشرب والغناء والرقص على انغام الزرنة للاهل والاصدقاء تزينهم ملابسهم التراثية الجميلة.
بدأ المرحوم حنا هرمز سيرته المهنية في البداية كمحاسب في وزارة النفط لانه كان من خريجي الاعدادية التجارية، ثم التحق بدورة اعداد المعلمين وتعين كمعلم في قرية بروشكي سعدون في منطقة دوسكي و بلدة المحلبية من الفترة 5-1-1959 والى 31-5-1959. ثم نقل الى بلدة عقرة وتعين في مدرسة العقرة الاولى للبنين من الفترة 31-10-1959 ولغاية 15-9-1962، ومن بعدها نقل الى قرية حتارة كبير وللفترة من 15-9-1962 ولغاية 1-9-1966، حيث نقل بعدها الى قرية بوزان وعمل فيها من الفترة 1-9-1966 ولغاية احالته على التقاعد في 7-7-1985م. وبسبب احداث الشمال وخطورة العمل في القرى تم تنسيبه ولفترة قصيرة للعمل في مدرسة القوش الاولى وكان ذلك عام 1974.
اما عن خصائل ومواهب المرحوم المربي حنا هرمز في عمله كمعلم يقول عنه صديق طفولته المعلم داويذ كبو رمو ما يلي:” لقد كان صديقي المرحوم حنا هرمز من افضل معلمي دورته وقد حظي باحترام طلابه وابائهم وزملائه وكل من عمل معه. لقد وهب نفسه للاخرين ولم يكن التعليم مهنة عنده، ولكن رسالته في الحياة. لقد كان للمرحوم اطلاع واسع على اهمية المعلم وشخصيته في قيادة وتاهيل التلاميذ واعطى لنفسه صورة مثالية لهم. لقد كان يُضرب به بالمثل دائما فيما يتعلق باخلاصه وكفائته وحيويته ونشاطه وتعلقه بهذه المهنة المقدسة. “
اما المشرف التربوي المشهور المرحوم عبد الرحن البزاز فقد كتب عنه وبعد ان حضر درس الرياضيات له بتاريخ 30-4-1972م ما يلي:
” معلم جيد ذو صوت واضح ومظهر لائق. مؤدب، شاعر كل الشعور بالمسئولية ويجيد التصرف. مولع بعمله ومخلص فيما يتعهد اليه، متعاون مع الجميع، يضبط الطلاب من دون عنف.
قابليته العلمية والمهنية جيدة وثقافته العامة حسنة. يطالع ويحضر للدرس، طريقته شيقة استنتاجية. يحسن استعمال السبورة.
في الرياضيات للخامس والسادس يجيد صياغة السئوال المستمد من المحيط المحلي للطالب، يدرب طلابه على صياغة الاسئلة، يعتني بالشكل ويحسن المقارنات للمراتب وفي القياسات، يحسن رسم الشكل وتوضيحه واستنتاج القاعدة. ارجو له التوفيق”.
اما صديقي ساهر حنا فيقول عن والده ” … كان معلما لسنوات طويلة لمادة الحساب والرياضيات، وقام باعطاء دروس نموذجية في الرياضيات، وكان المرحوم والدي ايضا معلما لمادة التاريخ والرياضة. وكان كل سنة يشارك في الاستعراض الرياضي الذي كان يقام سنويا للمدارس الابتدائية لناحية القوش كمعلم رياضة يقود فريق مدرسته في المسيرة الاستعراصية التي كانت تقام في بداية ونهاية الاستعراض. ولادائه المتميز في ذلك، كان المرحوم المعلم والمربي الفاضل عابد بتي الصفار يقول (للمزح) دائما ان ابو منهل يستحق حفنة من النجمات على هذا المسير والانضباط. وغالبا ما كانت مدرسة والدي تفوز بكأس المسيرة وذلك للجهد الكبير الذي كان يوليه والدي للانضباط والدقة في المسير. وهنا لا بد ان اذكر بان والدي كان من ضمن الهيئة الادارية لنادي القوش الرياضي في السبعينات. وحتى عندما تقدم به العمر كان يمارس رياضة التمارين السويدية بشكل يومي.”
في نهاية الستينات والسبعينات كان الاصدقاء يلتقون بين كل فترة واخرى في بيت احدهم للتسامر وخاصة في ليال الشتاء الطويلة. وفي تلك الفترة كان المرحوم حنا هرمز ياتي ومعه اصدقاء والدي الاخرين ومنهم المرحوم دينو رمو والمرحوم حبيب ديشا والمعلم الصديق عابد برنو واخرون. في تلك الفترة كان للاغنية الكردية صدى كبير عند هذا الجيل، ومن اجل ذلك كان والدي قد اشترى مسجلا ابو البكرة والذي كان غالبا ما يحتاج كل نصف ساعة الى قلب او تبديل الشريط لذا كانوا ينادوني لاقوم بذلك، وكم كانوا سعداء مع بعضهم البعض، وقد انتعشوا من الشراب والغناء الكردي الذي كان يصدح من حنجرة محمد عارف وعيسى البرواري. حينها تعرفت على اصدقاء والدي.
اما اذا كان الوقت ربيعا فكانوا غالبا، اي والدي والمرحومان حنا هرمز وحبيب ديشا كردي، وبعد ان ينتهي دوامهم في نادي الموظفين، يذهبون مشيا الى الروابي القريبة من بيادر محلة سينا ويبدأون هناك بالتسامر ومع جمال الطبيعة ونقاء الهواء وتحت السماء الزرقاء الصافية. لقد مرت العقود وهم على هذه الشاكلة دوما لاقتراب طبائعم واخلاقهم واتجاهاتهم الفكرية والانسانية، ولكن العامل المشترك بينهم كان التعليم. لقد كان المرحوم حنا هرمز يتصف بصفات الانسان المسالم والهاديء في طباعه ويملك عقلا راجحا، يحب ان تكون الناس في محبة مع بعضها البعض، ويحل مشاكل المتخاصمين من ابناء المحلة دائما.
ومن اجل كتابة سيرة هذه الشخصية التربوية الناجحة كنت قد طلبت من صديقي ساهر حنا ان يكتب لي قليلا هو ايضا عن صفات وتعاليم والده المرحوم حنا هرمز. فكتب لي ما يلي:
“….. الصدق والجدية والاجتهاد في العمل ولاحرص على التحصيل العلمي دائما، وكان يشجعنا بشكل كبير على الدراسة والسهر والمثابرة لاجل قطف ثمار النجاح ونيل الشهادة وباية درجة كانت، وعندما كنا نشكو له من صعوبة مادة من موادنا الدراسية، كان يقرأ المادة ويتقنها هو اولا ثم يشرحها لنا باسلوبه الممتع والبسيط، وفي يوم الامتحان كنا ننجح ونحصل على درجة عالية في تلك المادة فكان يفرح اكثر منا بذلك.
ومن اقواله التي كان يكررها علينا دائما: “ليكن دائما كتابك صديقك.” ومن الدروس الحياتية والتي تعلمناه منه الصدق والامانة والرعاية بالاخرين ومساعدة المحتاجين وحفظ كلمة الرب والاجتهاد وتقديس العمل وادامة الصداقات.
وفي الظروف السياسية المعقدة في القوش كانت الاحزاب تلح علينا بالانتماء اليها لكوننا من المتفوقين دراسيا، ولكن المرحوم والدي لم يكن يشجعنا على ذلك ابدا، وكان يقول لنا حينها: ليكن قلمك هو سلاحك وضميرك الحي، والعمل بجدية هو اساس النجاح والوطنية. لقد كان المرحوم الوالد حريصا على المطالعة وقراءة الكتب، لان الثقافة كانت بالنسبة له منطلق للحضارة والتطور، وهي تجعل الانسان كالسيف البتار في ارائه ومناقشاته مع الاخرين، ومن اصدقائه الذي كان يزوره دائما من اجل التحدث في التاريخ المرحوم الخياط ايسف توسا. وفي فترة دراستنا الاعدادية كان المرحوم والدي يشتري لنا كتب دائل كارنيجي وانيس منصور وكتب اخرى لنقراها ونتثقف، وكان هو ايضا مولعا بكتب التاريخ التي كان يستعيرها من اصدقائه او مكتبة نادي المعلمين، ولكن ظل الكتاب المقدس الكتاب المفضل لديه.”
لقد كان المرحوم حنا هرمز انسانا متفائلا في الحياة. واخر مرة التقيت به كانت اثناء زيارتي للوطن في ربيع عام 2013م حيث كان قد زارنا في البيت في القوش لزيارة والدي صديقه وللسلام والسئوال عنا. لقد كان المرحوم حينها في اتم صحة وعافيه، ولغاية اليوم ظلت صور نلك الزيارة مرسومة في ذاكرتي حيث طبيعته الهادئة والخجولة وحكاياته اللطيفة، ولم يخطر في بالي بانه ذلك سيكون اللقاء الاخير معه.
المرحوم حنا هرمز كان يتحمل اهوال الزمن من حروب وحوادث مروعة حصلت لابنائه وبناته، حيث وفاة زميلي المهندس المعماري وليد عبد الاحد زوج ابنته ندى في بغداد عام 2007م في حادث انفجار عبوة قاتلة وهو في طريقه الى مكتبه الهندسي كانت ضربة كبيرة له. ثم وفاة ثلاثة من احفاده في حادث سيارة مروع عام 2004 كان مؤلما ومروعا في نفس الحالة له ولجميع ابناء البلدة. لقد تقبل المرحوم حنا هرمز مصائب الزمن هذه بسبب ايمانه المطلق واعتبرها الالم الذي يتحمله الانسان على هذه الارض.
لقد احب المرحوم حنا هرمز تربة بلدته القوش وابى ان يتركها او يهاجر الى بلاد الغربة رغم امكانية ذلك، ولكنه كان يقول دائما: “ولدت هنا وساموت هنا ايضا”.
لقد ودع المربي المرحوم حنا هرمز هذه الحياة يوم 8 شباط 2020 تاركا ورائه ارثا انسانيا كبيرا وثمانية من الابناء والبنات: منهل، ساهر، فائز، ندى، ولاء، رواء، رفل، لمى و26 حفيدا وحفيدة ( اثنان منهم توفوا بحادث سيارة مروع والاخر في حادث سقوط من السطح)، وقد حقق ابنائه حلم والدهم في السير ورائه من اجل تحقيق رسالته في الحياة.
ولقد نعاه صديق طفولته المربي داويذ يوسف رمو بهذه الكلمات القليلة والتي تلخص شخصية هذا المربي الفذ. حيث قال:
“اولادي ابناء صديق العمر المرحوم حنا هرمز كريمة الاعزاء منهل وساهر وفائز والاخوات جميعا.
اقدم تعازي لكم بوفاة صديق الطفولة والدكم المرحوم حنا هرمز كريمة. لقد غيب الموت اليوم علينا وعليكم اعز صديق لي ومنذ الطفولة، وربما لا تصدقون ذلك فاني ومع المرحوم والدكم والمرحوم حبيب ديشا كنا ثلاثة اصدقاء لا نفترق ابدا، ولكن اليوم علينا ان نودع اكرم انسان واصدق انسان عرفته في حياتي. المرحوم والدكم حنا لم يكن له في هذه الدنيا اي راسمال سواكم، انتم ابنائه. هذه كانت رسالته في الحياة هي اولاده ومن ثم اولاده، واراد ان يقدم كل ما كان بامكانه لكم. كان يفتخر ويعتز بكم امام اصدقائه دائما. والدكم كان انسانا مكافحا ومحبوبا من قبل الجميع سواء في وظيفته او وفي بلدته وبين اصدقائه جميعا. لقد كان المرحوم حنا انسانا متوازنا وكريما، ليس لكم فقط ولكن لجميع محبيه. لم يتطرف ابدا في اية خطوة من خطواته، بل كان يحب ان يشارك في خدمتكم وخدمة طلبته وابناء بلدته. لقد بذل والدكم كل ما كان لديه من اجل رضاكم، لانه كان يقول لي دائما بان “راسمالي هو اولادي.”
ابنائي:
اليوم قد رحل والدكم الى الحياة الابدية وهو مطمئن بانه قد بذل رسالته على هذه الارض كانسان من اجلنا جميعا. واذا كنتم انتم في حياته راسماله الكبير، فليكن الان في رحيله اليوم هو راسمالكم الكبير، وحافظوا على رسالته وكفاحه واسمه وتاريخه”.
هكذا ودعت بلدتي القوش والمنطقة باكملها في 8 شباط الماضي شخصية انسانية تربوية اجتماعية ثقافية وهبت نفسها من اجل الاخرين ورسمت جزء من هوية الشخصية الالقوشية التي كان لها دور كبير في نشر التعليم في المنطقة باكملها. لقد رحل عنا معلم واب وصديق وقريب احب الناس اكثر من نفسه.
ارشيف الصور:
الاولى والخامسة: من صوره الشخصية في بداية الستينات.
الثانية: امام مدرسته في عقرة.
الثالثة: صورة عائلية من عام 1968 في القوش بمناسبة التناول الاول لابنائه منهل وساهر.
الرابعة: صورة تناول ابنته ندى في مار ميخا عام
السادسة: جزء من تقرير المفتش التربوي عبد الرحمن البزاز حول شخصية المعلم المرحوم حنا هرمز.
السابعة: في نادي المعلمين في القوش ومع اصدقائه في حديقة النادي في منتصف السبعينات.
الاخيرة: شهادة تربوية بمناسبة اشتاركه في حملة محو الامية.