دعوة العلمانين الخاصة
(بمناسبة عيش ايام التحضير وفهم السينودالية ومناسبة لقاء الشبيبة الكلدانية)
المطران مار بولس حبيب
في القوانين الكنسية يتكلم عن دور العلمانيين، حيث يربط العماذ بمشاركة المسيحيين في الوظيفة الكهنوتية والنبوية والملوكية للمسيح انطلاقاً من العدد 31 من نور الامم: “نعني هنا بكلمة “عَلمانيين” كلَّ المسيحيين ما عدا الذين هم أعضاءٌ في الدرجة المقدسةِ والحالةِ الرهبانية المعترف بها في الكنيسة، أعني المسيحيين الذين أصبحوا والمسيح جسداً واحداً، وتألَّفَ مِنهم شعب الله، وأصبحوا كلٌّ حسبَ طريقته شركاءَ في وظيفةِ المسيحِ الكهنوتية والنبوية والملكية، فيُمارسون رسالةَ الشعب المسيحي كلِّه في الكنيسة والعالم كلٌّ حسب قِسمته”. في الروح الارسالي الذي يؤدونه المؤمين العلمانيين في الكنيسة والعالم، الذي هو رسالة شعب الله كله، القوانين الكنيسة تفترض انطلاقا من هذا ادراج العلمانين في وظائف كنسية (مثل الخدم التي يؤديها المؤمنين في الليتورجيا والطقوس من دون اقتبال درجة او تكريس معين).
ان واجب العلماني في الوظائف الكنسية والتكليفات اليها، هو بالتاكيد شرعي ويظهر ايضاً ضرورته في اوضاع محددة، ولكن لا يمكنه ان يحوي كمال قيمة العلامة الكنسية الموجودة عند الخدام الذين اقتبلوا سر الدرجة، بسبب خصوصيتهم ليكونوا ممثلين بطريقة اسرارية للمسيح. ان الانفتاح في تكليف العلمانين في وظائف كنسية لا يجب ان تخنق العلامة المنظورة للكنيسة، التي هي شعب الله المرتب بصورة تراتبية ابتداءا من المسيح ثم الاكليروس والمؤمنين.
هذا الانفتاح ذاته لا يجب ان لا يقودونا الى ان ننسى بأن العلمانيين لهم دعوتهم الخاصة ضمن رسالة الكنيسة التي يشتركون فيها مع باقي المؤمنين. دعوة خاصة كما هي دعوة الاساقفة خاصة وباقي الاكليروس، وبمستوى مختلف الرهبان. دعوتهم هي كما يعلمنا المجمع، عدد 31 من نور الامم: ” يعودُ إلى العَلمانيين بفضلِ دعوتهم الذاتية أن يطلبوا ملكوتَ الله، بينما يتعاطونَ الأشياءَ الزمنية ويوجِّهونها وفقاً لإرادة الله. إنَّهم يعيشون وسط العالم أي يقومون بجميعِ أعمالِهِ، والواجباتِ المختلفةِ على أنواعها، في الظروف العادية للحياةِ العائليةِ والإجتماعيةِ وكأنها تنسج حياتهم. فإلى هذا يدعوهم الله ليَعمَلوا كالخميرِ على تقديس العالم من الداخل، وذلك بقيامِهم بوظائفهم الخاصةِ بوحي روح الإنجيل، ولكي يُظهروا المسيحِ للآخرين بشهادةِ سيرتهم قبلَ كلِّ شيء وما يشعُّ فيهم من إيمانٍ ورجاءٍ ومحبة. وإليهم يعودُ بنوعٍ خاص أن يُنيروا كلَّ الأمور الزمنية ويوجِّهوها، هذه الأمور التي هُم بها مرتبطون إرتباطاً وثيقاً بنوعِ أنها تتمُّ وتزدهرُ دوماً كما يُريد المسيح وتكون لمجدِ الخالق والفادي”.
ضمن دور العلمانين المؤمنين فهمنا معنى الكهنوت الجماعي الذي يخص كل المعمذين، ولكن الان سنحاول ان نفهم ما تعنيه دعوتهم او مواهبهم النبوية والملوكية (في موضوع نشر مسبقا تحت عنوان: الكهنوت العام علاقته مع سر درجة الكهنوت، تكلمنا عن الكهنوت العام الذي يتصف به كل المؤمنين) :
- الوظيفة النبوية:
العدد 35 من نور الامم يقول: “إنَّ المسيحَ النبيَّ الكبير الذي أعلنَ ملكوت الآب بشهادةِ حياته وقوَّةِ كلمته، يقومُ بوظيفته النبويّة حتى الظهور الكامل لمجده، ليس بالسُلطَةِ التي تُعلِّمُ بإسمه وسُلطانه وحسب، ولكن بالعَلمانيين أيضاً الذين أقامهم شهوداً وسلَّحهم بحسِّ الإيمان ونعمة الكلمة (راجع أع 2 / 17 – 18؛ رؤ 19 / 10) حتى تتلألأ قوةُ الإنجيل من خلال حياتهم اليومية والعائلية والإجتماعية”. ان العمل النبوي الذي اكتمل من خلال حياة المسيح، يمنح ايضا للمعمذين ليحققوه في عالم اليوم. هذا العمل لا يكون فقط من خلال اعلان نظري لافكار وامثلة الانجيل، ولانه في هذا الحال سنكون لازلنا في مدرسة يسوع نتعلم، هذا مهم بالطبع لا يمكن الاستغناء عنه. ولكن حقيقة الانجيل هي اكبر من نكون دارسين له فقط. من اجل ان يكون المعمذ نبيا في الكنيسة لا يلزمنا قدرة ثقافية، يلزمنا العماذ بالروح، اي عيش الحياة حسب الروح القدس الذي يساعدنا ان نجعل من الانجيل اسلوب للحياة. لا يكفي للمؤمن ان يعرف، بل ان يعيش. الانجيل ليس معلومات ودرس بقدر ما هو حقيقة وحياة، هو لنعيش حياة على حسب مثال المسيح. ان كرازة المسيح كان هدفها الملكوت، اي امر واقعي، حيث يكون الله بذاته حاضر في حياة من يقبل بهذا الملكوت. في عالم اليوم تكون النبؤة من خلال اظهار روح الانجيل ضمن مفاصل الحياة الاجتماعية والعائلية. بالطبع لقد تغيرت الظروف واليوم تطرح مسائل جديدة لربما لن نجدها ضمنيا في طروحات الانجيل والتقليد المسيحي، الاجابة عليها تكون ضمن روح العصر بجواب مسيحي اصيل، هذا نستطيع ان نسميه نبؤة. ان اظهار الانجيل في حياة المؤمن اليومية هو النبؤة بالذات. وهذا نسميه موهبة لان الروح القدس هو من يساعد المؤمن على ان ينظر حسب نظرة الله الى الامور الحياتية وكيف يعيشها مجاوبا على دعوة الله له.
- الوظيفة الملوكية:
يقول العدد 36 من نور الامم: “فالربّ يَروم أن ينشر ملكوته أيضاً بمساعدةِ عَلمانيين مؤمنين أي ملكوتَ حقيقةٍ وحياة، ملكوتَ قداسةٍ ونعمة، ملكوتَ عدالةٍ ومحبةٍ وسلام، ملكوت حيث تحرر الخليقة من عبوديةِ الفساد إلى حرية مجد أبناء الله (راجع رو 8 / 21)”. من هذا النص المقتضب والذي يمثل جزءا من نص اطول، لدينا موجز الخدمة الملوكية التي دعي اليها المسيحيين ليقوموا بها في العالم، على مثال وبالأخص بالقوة التي تاتي من روح المسيح. البرنامج هو واسع بقدر العالم ويتوسع ليشمل كل اوضاع الحياة.
هذه النظرة المثالية للمجمع تفتح القلب، لانها تحرر طاقات محبوسة في القلب الكنسي لزمن طويل، وان كانت قيمتها شيء اخر غير سهل ادراكها، كما حدث في السنوات ما بعد المجمع.
يكفي ان نشير الى بعض المجالات، المذكورة في العدد 36 من نور الامم. هنا يذكر اولا المجال والبعد للفعل والخدمة الكهنوتية. لا يتوقف عند الحيز الخاص، كما تريد سياسة ما ان توحي لنا بهذا اليوم وتقول ان الايمان هو امر خاص. الايمان يخص الحياة بواقعيتها، وان كان يواجهها فهو لا يفرض نفسه على المجتمع المدني والسياسي، ولكن الايمان ينفذ اليه بايحاء دقيق. ضمن هذا الحيز يجد تعليم الكنيسة الاجتماعي مكانته، من خلال ارشاداته ومواضيعه. فقط هذا التذكير يفتح امام المسيحيين الفضاءات التي تعود لهم دوما، ولكن دوما كانت قد اختزلت الى بعد اخلاقي او عبادي.
هذه الخدمة الكهنوتية تتطلب من المسيحيين تنشئة مناسبة وحسا للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما فيها الثقافية. يتطلب ايضا يقظة لانه اخيرا الكنيسة، ليس فقط في قمتها، ولكن في قاعدتها، كما يقول المجمع، تقدم حضورا فعالا وموثوقا فيه في العالم، لصالح العالم وليس للكنيسة. متى ما الكنيسة تقوم بخدمة من اجل العالم فهي بهذا تكون قد استلمت مكافأتها وبها تفرح.