محاضرات في العهد القديم (سفر الخروج)

Khoranat alqosh28 يناير 2022709 مشاهدةآخر تحديث :
المطران مار بشار وردة
المطران مار بشار وردة

“فَأجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً” (تك 12: 2)
اللقاء الثالث
المٌقدمة
كانَ موسى مليئاً بالإرادة الصالحةِ ومُستعّداً لإعانة أبناء شعبه المظلومين، فتنازلَ عن امتيازات البلاط الفرعوني ليكونَ إلى جانبِهم، إذ لم يتحمّلُ رؤية الظلم التي يختبرونه، فعرَّض نفسهُ للخطر من أجلهم، وعَمِلَ ذلك وفقَ رؤيته وبالطريقة التي ارتآها هو، والتي لا يُمكن أن نعدّها ثوريةً أو نزوةَ مراهقٍ، بل غيرةً لأجل هدفٍ سامٍ: العدالةُ للجميع لا سيّما المُضطَهدين، ومن أجل مُسقبلٍ واعدٍ للإنسانية جمعاء.
“وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأيامِ الْكَثِيرَةِ أنَّ مَلِكَ مِصْرَ مَاتَ. وَتَنَهَّدَ بَنُو إسرائيل مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إلى اللهِ مِنْ أجْلِ الْعُبُودِيَّةِ. فَسَمِعَ اللهُ أنِينَهُمْ فَتَذَكَّرَ اللهُ مِيثَاقَهُ مَعَ إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاق ويعقوب. وَنَظَرَ اللهُ بَنِي إسرائيل وَعَلِمَ اللهُ”. (خر 2: 23- 25). عادَ الرواي بنّا إلى مصرَ حيث يُعاني الشّعب من العبودية، وصرخوا إلى الله، وسمِع الله أنينهم، فصُراخهم (بكاؤهم) جعل اللّه يتحرّك لصالحهم، فقداستهُ تعني إصغاءً مُهتماً إلى صوت المتألمين، لذا، تذكّرَ، لا تعني أنه كان ناسياً أو متناسياً، بل، إنّ َالوقت قد حانَ لفعلِ ما ينبغي، بعدما أعطى الله للإنسان ذا الإرادة الحُرة الفرصة تلو الأخرى ليُوقِف الشّر، ولم يفعل. وصُراخهم يُذكّرنا بصراخ برتيماوس الأعمى (مر 10: 46- 52) الذي عرَف أن الصمت لا يعني إلا استمرارَ المُعاناة واستعطاء العطف والحياة، فرفضَ ان يسكت وراحَ يصرخ: يا ابنَ داود ارحمني! وزادَ في الصراخِ حتّى سمعهُ ربّنا يسوع فكانت له حياةٌ جديدة.
نحن واعون حقيقةَ أن الله لو تدخَّل بعد كلِّ شرٍّ يُقدِم عليه الإنسان لما أمكننا الحديث عن الإرادة الحُرّة للإنسان، الإنسان الذي سيُستدعى للمُحاسبة عن الخير الذي كان بإمكانه أن يفعلهُ ولم يقم به، بل وأيضاً عن تجاهلهِ لمسؤولياتهِ الذي يجعل الآخرين يتأملون: “لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي” (متّى 25: 42- 43).
بالعودة إلى تحرير الشّعب المظلوم من العبودية فإن الله الآب إذاً هو الذي سيُحرر الشّعب، وقد اختارَ موسى، صاحبَ المواقف الأخلاقيّة الصالحة ليُؤدي هذه المهمة، ولكن، تحت توجيهاتهِ، أي، بحسبِ مشيئة الربّ وليس بحسب مشيئة موسى. سنتأمل في لقاء الله بموسى عند جبل حوريب، واعتراضات موسى الخمسة على دعوة الله له.
القاء في جبل حوريب (خر 3)
“وَأمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ فَسَاقَ الْغَنَمَ إلى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إلى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ”. يبحث كلّ راعٍ عن مراعٍ خصبةٍ وآمنةِ لقطيعهِ، ولكن، أن يتجّه موسى نحو جبل حوريب في سيناء، فهذه إشارةٌ إلى رغبةِ موسى في الإنعزال بعيداً عن الناس، مثلما سيفعل عند تسلّمه الوصايا العشر، وسيلجأ إيليا إلى الجبل نفسه هرباً من إيزابيل (1 مل 19: 8)، كما يتبيّن في الوقت نفسه أنَّ الأربعينية الثانية من حياته، حياة موسى، لم تكن انسحاباً أو فترة استرخاء مع العائلة، بل كانت فترة تأمل إذ كان يُفكّر في كلِّ ما جرى له في مصرَ، وقضى لياليَ طويلةً في الصحراء يتأملُ الأحداث عن بُعدٍ، عَرَفَ أنه كان واهماً، وربما فكّر في نفسه: “كُنتُ أتصوّر أنني قادرٌ على قيادة شعبي! ظننتُ أنني قادرٌ على تغيير حياتهم بقُدراتي ومواهبي وإمكانياتي ومؤهلاتي!
“وَظَهَرَ لَهُ مَلاكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَاذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ! فَقَالَ مُوسَى: “أمِيلُ الانَ لانْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لا تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟” أثارَت رؤية مشهد العلّيقة الملتهةِ الفضول في نفس موسى، فلم يكن المنظرُ مألوفاً بالنسبة إليه، لذا، قرّرَ أن يتوجّه نحو الُعلّيقةِ ليرى ما طبيعةُ هذه النار التي تُشعِلُ ولا تُحرِق. مُعظم الناس لا يُعيرُ أهمية لمثلِ هذه المشاهِد في حياتهم والتي يكشفُ الله من خلالها عن حضورهِ، لا من خلال معجزاتٍ أو أحداثٍ عظيمةٍ، بل في مشهدٍ متواضعٍ (عُلّيقة مُشتعلة) أما موسى، وقد كان في الثمانينَ من عمره، لكنه ما يزال يحتفِظ بالرغبة في التعلّم والتعرّف إلى أسرارِ الحياة. لم يقل في نفسهِ: لنبتعد مع الأغنامِ عن هذه العُلّيقةِ المشتعلة، إذ يبدو أنه تحوّل من شخصٍ كان يدّعي، في مصرَ، أنه يعرف كلَّ شيء، وله القُدرة على تقديم الحلولِ اللازمةِ، إلى شخصٍ يسأل ويندهِش للجديد الذي لا يعرفهُ، لذا، قرّر أن يقترِب جسدياً من العلّيقةِ وينظر إليها باعتناء ليكتشِفَ سرّها، وهو قرارٌ مهمٌ جداً، وسيُغيّر حياتهُ على نحوٍ جذري، لأنه يُشيرُ إلى أن حضور الله في حياتنا هو حصليةُ مبادرةٍ من الله وتجاوب منّا، لذا، نقرأ: “فَلَمَّا رَأى الرَّبُّ انَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: “مُوسَى مُوسَى”. فَقَالَ: “هَئَنَذَا”.
انتظرَ الله تجاوبَ موسى مع الحَدث: علّيقةٌ مُشتعلةٌ ولكنها لا تحترِق، وعندما اقتربَ موسى من العليقةِ، بمعنى، بذل جُهداً جسدياً إزاء حضورِ الله، بدأ التواصل، فدعاه الله مثلما دعا إبراهيم من قبلهِ، وجاء جوابُ موسى: “هئنذا”، وهو جواب إبراهيم نفسه (تك 22: 1)، فأخبرهُ بألاَّ يقترِبَ أكثر، فالمكان مُقدّس، بسبب حضورِ الله فيه، وليس لأنّه مكانٌ مُقدس فحضرَ الله فيه، وأكّد الله له أنّه ما يزال أميناً للعهد الذي قطعهُ مع الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب: “أنَا إلَهُ أبِيكَ الَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَاقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ”. الله، هو إلهُ كلَ الناس وأبٌ لهم جميعاً، ولكنّه كشفَ عن نفسه لموسى أنّه إلهُ آباء الشّعب المُعذَّب في مصرَ، ليُخبرهُ عن المهمّة التي يُريدها منه.
لنتخيّل المشهد، في وسط البرية القاحلة، رأى موسى علّيقةً تشتعلِ، وسمعَ صوتاً يُناديه باسمهِ: موسى، موسى! صدمة عظيمة، هناك من يعرف إسمهُ! هناك من يعرفهُ ويعرِف ماضيه! وهذا يعني أنها ساعةٌ حاسمةٌ في حياة المدعوّ: “إبراهيم… إبراهيم (تك 22: 11)، “صموئيل… صموئيل” (1 صم 3: 10)، “مرتا… مرتا” …. (لو 10: 41)، “شمعون… شمعون” (لو 22: 31). هي ساعةٌ حاسمةٌ كما، وعلى موسى أن يكونَ مستعدّاً للسير وفقَ خريطةٍ وشروطٍ سيضعها الله وليس حسبما يُريد هو: “اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ”، بمعنى: اخترتُك لأنّي وجدتك غيوراً ومتحمّساً للعدالةِ، متواضعاً وشهماً، لكنّ ستسيرُ في الطريق الذي اخترتهُ أنا لك، وسأقنعُك بما أُريده منك، عارفاً أنَّ لديك اعتراضاتٍ كثيرة، فأنت تبقى إنساناً حُرّاً في هذا اللقاء، والعلّقية المُشتعلة علامة على أنَّ حضور الله لا يُلغي حُرية الإنسان، مثلما أنَّ قداسة الله لا تُفني حياة الإنسان، فمن الطبيعي جداً أن يخافَ موسى ويُغطي وجههُ.
واصل الله الكشفَ لموسى قائلاً: “إنِّي قَدْ رَأيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إنِّي عَلِمْتُ أوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أيْدِي الْمِصْرِيِّينَ وَأصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأرض إلى أرض جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ إلى أرض تَفِيضُ لَبَنا وَعَسَلا إلى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأمُورِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ. وَالانَ هُوَذَا صُرَاخُ بَنِي إسرائيل قَدْ أتَى إلَيَّ وَرَأيْتُ أيْضا الضِّيقَةَ الَّتِي يُضَايِقُهُمْ بِهَا الْمِصْرِيُّونَ”. الله، وهو إلهُ الآباء الذين قطع معهم عهداً، يترحّم على نسلهم، فسمِعَ صُراخ الشّعب وعرَفَ أوجاعهم، وأكّدَ على هذه الحقيقةِ مرتين، لذا، قرّرَ التدخل: “فَالآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إلى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إسرائيل مِنْ مِصْرَ”، وسيُغيّر من واقع حياتهم المرير نحو حياةٍ أفضل، ويوفّر لهم أساسيات العيش الكريم حيث يحصلون على مراعٍ خضراء وطعام: “لبن وعسل”، للدلالةِ على أنهم سيكونون في ضيافةِ الله الآب.
طلبَ الله من موسى أن يُشاركهُ هذه المشاعر ودعاه ليقود الشّعب خارجَ مصرَ: “فتعالَ أُرسلكَ” (خر 3: 10)، فبعد أربعين سنةً من الغربة، هرباً مما حصلَ له في مصرَ، هوذا الربُّ يُكلّفهُ بالمهمةِ التي فشِلَ فيها سابقاً عندما حاول تتميمها وفقَ رؤيته هو، ليكون موسى الآن مُكلّفاً بإتمام مشيئة الله وفقَ تدبير الله، وهي مهمّة ستُكلّف موسى حياته، فهو يعرِف مصرَ جيداً، ويعرِف أنه مُجرم في نظر شعبها، ومرفوض من قبلِ العبرانيين، وهم الطرف الأصعب في الإقناع. فهل سيقبَل موسى بهذه المهمّة؟
المُهمّة المُستحيلة
بدأ موسى بتقديم اعتراضاته الخمسة على هذه المَهمّة، أوّلها: “مَنْ أنَا حَتَّى أذْهَبَ إلى فِرْعَوْنَ وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إسرائيل مِنْ مِصْرَ؟” جوابٌ من راعٍ متواضعٍ يعرِف أنّه ليس قادراً على إتمام هذه المهمّة، فمَن أنا حتّى تختارني يا الله؟ ثم إنني مطلوبٌ للعدالةِ في مصرَ، فكيفَ أمثلُ أمام سلطة ترغبُ في إعدامي؟ لذا، جاء جوابُ الله مُطمئناً لمخاوفَ موسى: “إنِّي أكُونُ مَعَكَ”، وهو الجواب نفسه الذي سيقوله لجدعون (قض 6: 16)، والعلامة هي أنك حينما تُخرِج الشّعب من مصر، ستعبدونيي على هذا الجبل، بعد أن يُطلِقهم فرعون أحراراً، ثمَّ عادَ في الفصل الرابع ليُؤكِدَ له: “إذْهَبِ ارْجِعْ إلى مِصْرَ لانَّهُ قَدْ مَاتَ جَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَكَ” (خر 4: 19). فالمطلوب منك هو أن تؤمِن بما أقولهُ لك.
قدّم موسى اعتراضه الثاني: “مَن أنت يا الله؟”: “هَا أنَا آتِي إلى بَنِي إسرائيل وَأقُولُ لَهُمْ: إلَهُ آبَائِكُمْ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. فَإذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أقُولُ لَهُمْ؟” الاعتراض الأول كان: “مَن أنا؟ والاعتراض الثاني هو: “مَن أنت؟ فلقد نسيَّ الشّعب أن لهم إلهاً لا سيّما وهم يُعانونَ من عذاباتٍ قاسية وليس هناك من مُجيبٍ لصُراخهم، ويبدو، أو هكذا كانوا يظنون، أن آلهةَ مصرَ أقوى من إله الآباء، فما الدّاعي إلى الإيمان بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إن كان لا يتضامن معنا في عذاباتنا؟ وهي ذاتها الخبرة التي سيختبرها أبناؤهم في منفى بابل؟ فقدّم موسى اعتراضه بفمِ العبرانيين: “ما اسمُك؟”، وكيف لي أن أعرِفك؟ ومَن أنت؟ وما نفعُ الإيمان بك؟
فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: “اهْيَهِ الَّذِي اهْيَهْ”. وَقَالَ: “هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسرائيل: اهْيَهْ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ”. عرّف الله نفسه لموسى بأنه الإله الحاضِر دوما ًإلى جانب شعبهِ، فهو الحي الفاعِل في حياتِهم. تفسيرُ الأسم: “يهوه” يُشيرُ إلى معانٍ عديدة، تعني جميعها أنه الإله الحيّ: أنا مَن أنا، سأكون ما سأكون، أنا الوجود والموجود، أنا الحاضر إلى جانبكم وسأخرجكم من مصر وأحرّركم من عبوديتها لتعرفوا أني أنا الإلهُ الحق، وأنَّ لكم كرامة العيش أحراراً، وهي حقٌّ لجميع البشر: “اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأرض لأَنِّي أَنَا الله وَلَيْسَ آخَرَ.” (إش 45: 22). فمن المهم أن يعرِف موسى، والشّعب، أنّ الله ليس غائبا أو غافلاً عن حياتهم، بل هو حاضرٌ إلى جانبهم إن توجهوا إليه بإيمان وعيش حياة يكون هو محورها.
عرَف الله أن مهمّة موسى صعبة إذ عليه إقناع ثلاثة أطراف لتحقيق ما يُريده: فرعون، العبرانيين المُستَعبَدين، وشيوخ الشّعب الذين لهم مكانة متميّزة بين الشّعب الذي يُصغي إليهم كونهم يُمثلون الحكمة وخبرة الحياة، وليس العلم فحسب، ليُخبرهُم أنّ الله سَمِعَ صُراخهم وسيتدخّل لصالحهم، ويُحقق الوعد الذي أقسمَ لإبراهيم، ويُخرجهم من مصرَ مثلما تنبّأ يوسُف: “أنَا أمُوتُ وَلَكِنَّ اللهَ سَيَفْتَقِدُكُمْ وَيُصْعِدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرض إلى الأرض الَّتِي حَلَفَ لإبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ” (تك 50: 24)، وهي مقولة كانت متداولةً بين الشّعبالذي ينتظر تحقيقها.
وعندما يواجه موسى، هو وشيوخ الشّعب، فرعون كان عليهم أن يقولوا له: إن إلهَ العبرانيين قد إلتقانا، وعبارة (إله العبرانيين) هي عبارة سيفهمها فرعون، فالآلهة كانت آلهةَ شعوبٍ وعشائر، لذا، فعندما يُقدّم الكتاب المُقدس الله على أنّه، إله الكونِ كلّه، فذلك مفهوم جديد، بل ثوريّ للإنسانية كلّها. وكان على موسى أن يسأله منحَ إجازة لمدّة ثلاثةِ أيام للعبرانيين، ليتسنّى لهم التعبّدَ في الصحراء ليذبحوا حيواناتٍ للرّبِ، وعليه أن يطلبَ ذلك باحترام، لكن، هذا هذا الطلب لا يخلو من إستفزاز لفرعون وشعب مصرَ الذين كانوا يُكرمونَ بعض الحيوانات، بمعنى آخر: إن موسى ربما كان يطلب ذبحَ بعض الآلهةِ المصرية لإلهِ العبرانيين، فالحيوانات خلِقَت لخدمة ِالإنسان على نحو مُبرر، من دون انتهاكِ حياتها، ثم إنّ الطلب يُعدّ إهانةً موجهةً إلى مصرَ وآلهتها، التي يرفضها الربُّ الإله، فلا يرضى بأن تُقدَّم له العبادة في أرض فاسدة، وهو إجراء يرفضهُ فرعون ممثل الآلهة على الأرض.
كان الله عارفاً أن فرعون سيرفض هذا الطلب، لذا، سترافق هذا الطلب آياتٍ ومعجزاتٍ، فلن تكون أمام فرعون إزاءها خيارات كثيرة، فمع كلّ القوّة التي سيراها الشّعب، تبقى لفرعون حُرية القرار، فالله سيُقدِّم بواسطة موسى لفرعون الفرصة تلو الأخرى ليختارَ ما يُريده الله منه، قبل أن تأتي الضربات الموجعة، ويُضطرّ فرعون للسماح لهم بالرحيل عن مصرَ، ومع رحليهم سيكون على النّسوة أن يطلبن من جاراتهنَّ فضةً، وذهباً وأمتعةً وثياباً. وهنا نسأل: قد نفهَم أهميّة استعارة الملابس للطريق، ولكن لِمَ الفضةُ والذهب؟
المُشكلة هي في شيوخ الشّعب يا الله، كيف سيُصدقونني؟ وهو الاعتراض الثالث لموسى على المهمّة: “وَلَكِنْ هَا هُمْ لا يُصَدِّقُونَنِي وَلا يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ” (خر 4: 1). فمع تأكيد الله له أنهم سيسمعون له (3: 18)، إلاَّ أن موسى أرادَ أن يقول للَّه ضمناً: “أنا أعرَفُ بشعبي منكَ، سيسمعونني، ولكنهم سيتراجعون في حضرة فرعون”، فجاء جواب الله له: “مَا هَذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: “عَصا”. فَقَالَ: “إطْرَحْهَا إلى الأرض”. فَطَرَحَهَا إلى الأرض فَصَارَتْ حَيَّةً فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: “مُدَّ يَدَكَ وَامْسِكْ بِذَنَبِهَا” (فَمَدَّ يَدَهُ وَأمْسَكَ بِهِ فَصَارَتْ عَصا فِي يَدِهِ) “لِكَيْ يُصَدِّقُوا أنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ الرَّبُّ إلَهُ آبَائِهِمْ الَهُ ابْرَاهِيمَ وَالَهُ اسْحَاقَ وَالَهُ يَعْقُوبَ”. كان على موسى، وهو الرّاعي الخبير بشؤون الرعاية، أن يُمسِك الحيّة من رأسها ليمنعها من لسعه، ولكنّ طُلِب منه أن يُمسِك الحيّة من ذنبها، كان ذلك اختباراً لطاعتهِ وعلامةً أمام شيوخ الشّعب، وفعلَ موسى مثلما أمره الله، ليعرِف أن الله هو معهُ.
ثم جاءت علامة البَرص: “ثُمَّ قَالَ لَهُ الرَّبُّ أيْضا: “أدْخِلْ يَدَكَ فِي عُبِّكَ” فَأدْخَلَ يَدَهُ فِي عُبِّهِ ثُمَّ أخْرَجَهَا وَاذَا يَدُهُ بَرْصَاءُ مِثْلَ الثَّلْجِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: “رُدَّ يَدَكَ إلى عُبِّكَ” (فَرَدَّ يَدَهُ إلى عُبِّهِ ثُمَّ اخْرَجَهَا مِنْ عُبِّهِ وَاذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ مِثْلَ جَسَدِهِ) “فَيَكُونُ إذَا لَمْ يُصَدِّقُوكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الايَةِ الأولَى أنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ صَوْتَ الايَةِ الأخِيرَةِ” (خر 4: 6-8). نحن نعرِف أن البرص هو عقوبة لمَن يتكلّم بالسوء والنميمةِ على الآخر في وسط الجماعة، كما حصل لمريم التي تحدثّت بالسوء عن موسى (عدد 12: 10)، فالنمّام يسعى إلى اختلاق الأكاذيب وتقسيم الجماعة، لذا، يكون عقابهُ الإقصاء عن الجماعة وإبعاده عنها لحمايتها. فلماذا لم يقل الله لموسى: سأعاقب مَن لا يسمع لك أو مَن يتحدّث عنك بالسوء بالبرص، لماذا عاقبَ موسى بالبرص مؤقتاً؟
معاقبة موسى كانت بسبب إثارته للشكوك حولَ شعبهِ، فالله كان يعرِف أنَّ الشّعب سيسمعُ لموسى. من الممكن أن تكون لدى موسى شكوك حول أهليتهِ للقيادة، ولكن يجب أن تكون لديه ثقةٌ بالذين يقودهم، وأن لا يستخفَّ بهم، لا سيّما وأنَّ الله اختاره ليكون صوتاً له بينَ شعبهِ، وليس خارجاً عنهم، إضافة إلى كونه صوتَ الشّعب أمام الله. بمعنى آخر: أرادَ الله أن يقول لموسى: ليس مُهماً أن يؤمنوا بك، بل المهم أن تؤمِن أنت بهم، فلا ترى خطاياهم فحسب، بل فضائلهم، فإذا كنت لا تؤمِن بهم، فأنت لا تؤمن بي، أنا الذي أُرسلِك إليهم. فعليك أن تُحبهم وأن تثقَ بهم، وترى الخير الذي فيهم، حتّى تساعدهم ليتجاوزا الحالة التي هم فيها. فهؤلاء الذين تقول عنهم: “لا يُصَدِّقُونَنِي وَلا يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ” (خر 9: 1)، هم شعبي، وشعبُكَ، فمثلما تؤمن بي، آمن بهم.
“وَيَكُونُ إذَا لَمْ يُصَدِّقُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِكَ أنَّكَ تَأخُذُ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ وَتَسْكُبُ عَلَى الْيَابِسَةِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ الَّذِي تَاخُذُهُ مِنَ النَّهْرِ دَما عَلَى الْيَابِسَة” (خر 4: 9). عرفَ الله أن المعجزتين لم تكونا كافيتين لإقناع موسى فقدَّم له الثالثة فيحوّل الماء إلى دمٍ في خطوة استباقية لما سيجري في نهر مصر العظيم: النيل. النيل الذي كان يُعبد كإلهٍ سيُقدَّم ذبيحةً للإلهِ الحق. وهذه الآياتُ تُشير إلى أن الله هو الذي أرسل موسى وهو بذلك يوكدّ مصداقية دعوة موسى عند الشّعب.
ثم قدّم موسى إعتراضهُ الرابع: “إسْتَمِعْ أيُّهَا السَّيِّدُ لَسْتُ أنَا صَاحِبَ كَلامٍ مُنْذُ أمْسِ وَلا أوَّلِ مِنْ أمْسِ وَلا مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أنَا ثَقِيلُ الْفَمِ وَاللِّسَانِ” (خر 4: 15)، اعتراضٌ غيرُ مُبرَّر لأننا لم نسمع من الرّاوي أيَّ ذكر عن أنّه كان لا يُحسِن النُّطقَ، لذا، لم يقتنع الله بهذا الاعتراض أيضاً: “مَنْ صَنَعَ للإنْسَانِ فَما أوْ مَنْ يَصْنَعُ أخْرَسَ أوْ أصَمَّ اوْ بَصِيرا أوْ أعْمَى؟ أمَا هُوَ أنَا الرَّبُّ؟ فَالآنَ اذْهَبْ وَأنَا أكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ” (خر 4: 11)، فالربّ اختاره لأنّه كان إنساناً صالحاً، عادلاً ومتواضعاً وشهماً، وليس لأنّ لديه مؤهلاتُ قيادية أو مواهبَ إدارية متميّزة، فما نفعُ البلاغة وقوّة الإقناع إنّ لم تكن إنساناً عادلاً ورحوماً ومتواضعاً؟ ثم إن الله يبحث عن إنسانٍ يُصغي أكثر مما يتكلّم، لذا، ختمَ الله جوابه بعبارة: ” فَالانَ اذْهَبْ” (خر 4: 12).
فلم يبقَ أمام موسى أيّ اعتراض إلاَّ الرفض: “اسْتَمِعْ أيُّهَا السَّيِّدُ أرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلْ” (خر 4: 13)، فالمطلب هو صعبٌ وخطير، وكشفَ موسى في ذلك عن أنّه إنسانٌ لا يبحث عن الشهرة أو المناصِب، بل يُقدِّر جسامة المهمّة وتحدياتها، وهو ما جعلَ الله يغضب عليه، ويُثبّت اختياره مع معاونهِ، أخيه هارون، والذي يُجيد الكلام، مع معرفتنا أن الضربات هي التي ستُجبِر فرعون على أن يُخلي سبيل الشّعب، وليست قوّة الإقناع ولا تأثير قيادة موسى ولا فصاحةِ هارون.
وهكذا، فنّد الله كل اعتراضاتِ موسى، ولم يبقَ أمامه إلاَّ الإصغاء لما يريدهُ الله منه، ليكون النبي الذي به أَصْعَدَ الرَّبُّ إسرائيل مِنْ مِصْرَ، وبه حفِظَهَم (هو 12: 13). ومنحه عصًا لتُذكّره بلقائه الربّ في جبل حوريب، فالقيادة هي للَّه، والأهم أن يتذكّر أنه راعٍ، مع رعيّة جديدة: “وَتَأخُذُ فِي يَدِكَ هَذِهِ الْعَصَا الَّتِي تَصْنَعُ بِهَا الآيَاتِ” (خر 4: 17)، وتُذكره بلقائه الأول مع الله في حوريب.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل!