فجاؤوا مسرعين ( لوقا 2: 16 )
رسالة راعوية بمناسبة أعياد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية الجديدة
أيها المباركون أبناء كنيستِنا في ابرشية القوش العامرة
سلام الرب معكم، وليغمر فرحُ الميلادِ قلوبَكُم
تهنئة
نقدمُ لكم تهانينا القلبية ممزوجةً بالعاطفةِ الابوية تجاهكم، في حدث ميلادِ ربِّنا ومخلِّصِنا يسوع المسيح، القادم لأجلِ خلاصِنا، وإذ نحن نتهيأ لاستقبالِ ميلادِ ربِّنا يسوع المسيح، لنوجِّه فكرَنا ومشاعرَنا متأملين بمعاني هذا الميلاد، الذي هو حدث يتجدد كل يوم في حياتِنا، وهو علامة توجِّه مسيرتنا.
رعاة يحرسون قطيعهم
حيث وَلِدَ يسوع، كان هناك رعاةٌ يعيشون على هامشِ المجتمع، متروكين وفقراء، لا علاقة لهم بالاحداث مهما كانت أهميتُها. لهؤلاء، أولاً وقبل كلِّ البشر، تُزَفُّ بشرى ميلاد المسيح. يصِلُهُم خبرُ ميلادِ المسيح عبر مرسالٍ سماوي، ترافقه جوقاتٌ سماوية من الملائكة تُمجِّدُ اللهَ وتُرتِّلُ كلمات تمثِّلُ بالذات محتوى برنامج الله الخلاصي، الذي يتلَخَّص بالأمور الآتية:
– ان يعرفَ البشرُ اللهَ ويميِّزوه عن المعبودات الباطلة ( المجدُ للهِ في العلى).
– ان تَحل المصالحةُ بينَ البشر، فيرى السلامُ الحقيقي النورَ، ذلك السلام الذي ترغب فيه البشرية بعمق أعماقها ( وعلى الأرضِ السلام)
– ان يكونَ للإنسان مستقبلٌ واضحٌ، رغم بؤسِ مصير الموت المحتم ( الرجاء الصالح لبني البشر).
رد فعل الرعاة
قرَّرَ الرعاةُ الذهابَ الى بيت لحم، ليُعاينوا ما اعلمَهُم به الربُّ. هذا يعني انهم آمَنوا بما قيل لهم عن المخلِّص، (وان كان قد ولد في ضيعة كأن يولد في مكان اخر اسمى من هذا المكان). لم يتجاهلوا ما قالَه الملاك، لم يبحثوا عن حُجَجٍ يُبرِّرون بها تقاعسهم عن الذهاب، لم يحبذوا التكاسل والنوم والانشغال بقطعانهم، بل على العكس، قرروا مؤمنين، وتركوا كلَّ شيء ليذهبوا ويلتقوا بالمخلِّص.
ماذا وجد الرعاة؟
لقد حضروا الى مغارة بيت لحم، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضطجِعا في مذود. قد نتساءل ما هي العلامات التي وجَدَها الرعاةُ مشيرةً على ان هذا الطفل هو مسيح الرب ؟ هل عرفوه من الملاك؟ نعم بالتأكيد، لان الملاك هو مرسال الله، فمهما تعقَّل الإنسانُ وبحث عن الله بامكانيته البشرية، فسوف لن يستطيع معرفة الاله الحقيقي المُخلِّص، انه يحتاج أن يكشف الله ذلك له. ولكن لماذا اتى الرعاة الى المغارة؟ لكي يختبروا اللقاء بالله الذي تقلَّصَ واصبح طفلاً وديعاً فقيراً يخاطب مشاعرهم ووضعهم الفقير، لقد اختبروا حضور الله المتضامن مع حالهم، لقد رأوا شخصاً يحبهم ويقاسمهم البؤس.
ان الله لا يكلِّمُنا من العلى ولا من بعيد، إنما يقترب من حياتِنا بمختلف ظروفها، ويتحمل ضعفنا ليبرهن لنا عن محبته. انه حاضر في اشخاص نلتقي بهم يومياً: المحتاج، المريض، المنبوذ والمظلوم. انها حالات الانسانية المتألمة والمستعبَدَة. ان الله يظهر في هذا الوضع لا لانه ضعيف، ولكن ليخاطب انسانَنا العميق الذي يعيش متألماً إما بسبب الفقر والمرض والمحدودية الجسدية، او يعيش الألم بسبب مصيرِ حياتِهِ الذي يفضي الى الموت حتماً. ان الله يدخل الى ضعفنا لكي يجد لنا الامكانية التي تسمو بنا فوق هذا الضعف فنتقوى.
فجاؤوا مسرعين
نعم أتى الرعاة بسرعة، والجواب الذي يقدمه لهم المخلِّص بمحبة وبصورة فعلية، يستحق ان يسرع الانسان نحوه، لا بل ان يتراكض باتجاهه ويتخلى عن التفاهات لكي يحصل عليه. الخلاص هو هذا الجواب الذي يقدمه الله لنا بميلاد ابنه، ومجيئه الى عالمنا. هذا الاسراع الى ملاقاة المخلص هو اشتياق يفوق كل الرغبات وكل الاحتياجات، انه تلك الحالة التي يعيشها المزمِّر اذ يقول:” عطشت نفسي الى الله الحي، متى اتي وارى وجهك” ( المزمور 42: 2). هل تراودك هذه المشاعر؟ هل انت تعطش الى الله اكثر من اي شيء اخر؟
واليوم بأي اتجاه نسرع؟
لو حلَّلنا مشاعرَنا، سنجد أنَّ في داخلنا نزعة أو ميل يُحرِّكاننا نحو رغباتِنا كيما نحققها بعمياوية وفوضوية أحياناً. رغبات قد تبدوا في ظاهرها خيِّرة،إلا انها في الحقيقة عقيمة. مثل عيون جميلة مفتوحة لكنها عمياء. لقد تثاقلت ارجل قلوبنا اليوم من السير نحو المسيح، واسرعت نحو متابعة احداث وممارسات وسلوكيات عالمية ومحلية، لا تقدم لنا الجواب الذي يفتح امامنا افق الامل والرجاء، إنها احداث وممارسات وسلوكيات وقتية زائلة، نعيشها برغبة عارمة، ونتيجتها فارغة ووخيمة. اصبحنا مثل السنابل الشامخة التي تتعالى على وجه الحقل، ولكنها فارغة غير مُحمَّلة بالحنطة.
رغبات الكثيرين تتسارع اليوم نحو الرهان، القمار، السُكر، الرغبة في الانتقام، الشراهة والمتعة فقط، من دون حب مقدس. نحتفل بميلاد المسيح سنوياً، لكي يصبح حدثُ ميلادِهِ التاريخي حاضراً ومعاصراً ومواكباً لنا، ولكن لننتبه، فالمسيح يولد أيضاً في كل قداس نحتفل به، فهل نحرص على أن نحضر القداس كل يوم احد ونلتقي بخلاصنا فيه؟ ام إننا نبحث عن تبريرات وجدل عقيم لتبرير اهمالنا وابتعادنا عن مصدر وجودنا، اي المسيح؟.
بشرى الملائكة زفت ثلاثة امور يريدها كل انسان، معرفة الله الحق، والمصالحة، والمستقبل بالرغم من الموت، هل نبحث عنها في مكانها الصحيح، اي في يسوع المسيح؟ ام إننا نبحث عنها في فعاليات نستوردها من محيط لا يعرفها ويتظاهر بأنه يقدمها لنا؟ فعاليّات في جوهرها قد تعمل عكس ما تدّعيه، فتجعلنا نؤله اشياء عوض الله، ونتخاصم ونتباعد عوض ان نقترب من بعضنا وتخلق فينا الاحباط. فلنحذر! فالامور السلبية التي اشرت اليها لا تقودنا الا إلى الانتكاسة والتراجع نحو الوراء. وحده المسيح مَن يمسك بيدنا ويقودنا الى العلى، الى السماء والى الحقيقة، فنصبح به حقيقة خالدة.
ميلاد مجيد والرب يبارككم واصرخ في مسامعكم قول الرب:
“تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.” (متى 11: 28)
المطران بولس ثابت حبيب
ابرشية القوش الكلدانية
19/12/2022