تتفشى ظاهرة البدع في فترات التذبذب والقلاقل والخوف والحروب، وهي اجتماعيا ظاهرة في كل الأزمنة والأمكنة، تصدى لها، في بداية المسيحية، الرسل وآباء الكنيسة وكتبوا عنها الكثير. لكن البدع يمكن أن نعدها كالمرض الاجتماعي، لأنها جزء من حالة كبيرة تظهر في السياسة أيضا وتتكيف للسيطرة على الناس الضعفاء والجهلة. كما تظهر البدع وتختفي تبعا للضغوط والممارسات والعنف تجاهها. إلا أن لكل البدع خيط بيانيّ يجمعها، بأساليب تتكرر وتعود كالإيقاع، حتى يمكن أن نقرأ في ظاهرة “داعش” في زماننا، تبنيها جميع أساليب البدع، استعملتها لأنها مجرَبة فاجتذبت آلاف الشباب إلى صفوفها وجنّدتهم وأرسلتهم ليموتوا في سوريا والعراق. في هذه الأسطر أحاول أن أشخّص تلك الأساليب التي اعتمدتها أغلب البدع، دينية كانت أو سياسية أو اقتصادية، كلها “حيلة رزق” وكسب سهل، يقع في فخ الأمراض الثلاثة التي ندّد بها المسيح في بداية رسالته، في قصة تجاربه: السلطة والمال واللذة. في كل البدع شخص المهم هو “غورو” guru، أي قائد أو مرشد أو معلم، فيه صفات معيّنة يطالب بالخضوع المطلق له ولتعاليمه وأسلوبه، يتدخل في كل تفاصيل حياة مريديه، وقد يلجأ إلى كل الأساليب لتحقيق ذلك. لدينا في العقود الأخيرة أمثلة كثيرة جدا، خصوصا في السياسة لكن من البدع الدينية نذكر:
- الطبيب لوك جوري Jouret (1947 – 1994) سويسري أسّس بدعة “المعبد الشمسي” (OTS)، أقنع أتباعه بنهاية العالم ودفعهم للإنتحار معه.
- بدعة واكو Waco (1993): 80 قتيلاً في حريق بمزرعة تمتلكها البدعة أسسها ديفيد كوريش Koresh.
- في اليابان بدعة “أوم Aum”، لغورو ضرير اسمه شنركيو Shinrikyō ، استطاع كسب ثلاثة ملايين تابع في اليابان وروسيا، نشر الرعب في مترو طوكيو عام 1995، وقتل المئات بغاز السارين.
- والأبشع كانت بدعة “معبد الشعب” في الولايات المتحدة الأمريكية أسسها جيم جونس Jim Jones (عام 1955): لاحقته السلطات فهرب وأتباعه إلى غويانا ليقتلهم جميعا (923 شخصا) مسمومين عام 1978.
البدع إذن ظاهرة في كل زمان ومكان، والغريب أنها تكثر في أزمنة التحلل والانفلات أو الاضطراب والتحوّل. لذا يمكن القول إنها ظاهرة طبيعية ترافق كل ثقافة، وقد عانت منها المسيحية خصوصا منذ البداية، بل نفسهم أتباع يسوع عدّوهم بدعة قامت داخل اليهودية، وهذا ما نقرأ في سفر أعمال الرسل أمام فيلكس، حاكم قيصرية، حيث اتهم اليهود بولس بأنه زعيم بدعة الناصريين: “لقد وجدنا هذا الرجل، مفسدا يثير الفتن بين اليهود في العالم كله، زعيم لبدعة الناصريين، وحتى حاول تدنيس الهيكل”، (أع 24: 1-27). ما هو تعريف البدعة بالضبط؟ ليس الغرض من هذا المقال سردًا مسهبا عن البدع فهي تحتاج إلى كتب كثيرة. والكثير من وسائل الإعلام يفعل ذلك، من حين لآخر، وهي محقة في ذلك لأن البدع أشبه بمرض التديّن. وحتى في اسمها باللغة الدينية التقليدية، “بدعة” صدى ازدرائي واضح. والبدعة على عكس الكنيسة، تشير إلى مجموعة “انفصالية” صغيرة تجمع مجموعة من التلاميذ حول معلم (غورو) عادة ما يكون هرطوقيا (أي يفصّل مذهبا على مزاجه). من الناحية اللغوية، ستأتي كلمة البدعة باللغات الغربية sects من أصل فعل لاتينيsecare ، أي اقتطع أو من الفعل sequire، أي تبع أو إتّبَعَ أو لحق بـ. لكن، بالرغم من تغير الأزمنة وأن البدع تشبه زمانها ومكانها، وتتكيف لهما بسهولة، إلا أن التبعيّة هي نفسها! إن المتغيرات الثقافية العميقة التي نشهدها من جهة، وتراجع الكنائس المؤسساتية والتقليدية من جهة أخرى، عامل مساعد على انتشار البدع. ووفقًا للاتحاد الوطني لجمعيات الدفاع عن العائلات والأفراد (UNADFI) في فرنسا، هنالك أكثر من 250 بدعة تمارس نشاطها في فرنسا وحدها. هذا إلى جانب تنامي بدع من نوع جديد كالإلحاد الجماعي، الذي يؤثر على مجموعات بشرية بأكملها، أذكر قبل ربع قرن كان اهتمام أكبر بالبدع مع صدور موسوعات كاملة عنها. قال الكاتب الفرنسي أندريه مالرو (1901 – 1976): “هناك الكثير من المؤمنين على الأرض، لكن الحضارة الحديثة ليست حضارة دينية ولا تقوم على حدث ديني معيّن. والحضارة المسيحية كانت تتطور داخل إطار مسيحي وقيم مسيحية. لكن الحضارة اليوم (على الأقل في الغرب) تتطوّر نوعا ما حول الفراغ”. قال ذلك في عام 1968، أي قبل نصف قرن وكلامه اتخذ أبعادًا واسعة جدا مع العولمة لتنتشر أساليب البدع خارج الأديان والمذاهب وحتى السياسات. نحن إذن أمام زعزعة ثقافية هائلة هزّت الحضارة الغربية، التي أصبحت حضارة “ما بعد المسيحية” أو ما بعد الحداثة، ولم يسلم من هذه الزعزعة أي من العناصر والمؤسسات: الأسرة، المدرسة، الجيش، وخصوصا الكنائس. لا أحد منها محصَن ضد “فيروس” ظهر في كل مكان على شكل تعصّب أعمى ولم تتمكن مجتمعاتنا من تقوية المناعة لدى الناس فتفاجأنا بالضبط كما تفاجأنا في مطلع عام 2020 مع فايروس كورونا (الكوفيد19) المستجد، فالبدع أيضا تعرف كيف تستجد وتغيّر ألوانها وتتكيف مع وسائل التواصل الاجتماعي. سر نجاح البدع في كل زمان ومكان كان هنالك لدى البشر جوع إلى معرفة الله في جميع أنحاء العالم. وهذا الجوع تغذيه أولاً وقبل كل شيء حاجة إلى الإيمان بوجود عالم آخر غير هذا العالم وغير التكنولوجيا والمادة. لذلك عادة ما تستغل جميع البدع هذا الجوع، فتقدّم نفسها بكل جرأة على أنها هي الحقيقة وأنها قادرة على تحقيق العودة إلى الأصالة وحل المشاكل كلها… لكن ما يميّز جميع البدع، في زماننا خصوصا، أنها مناهضة لكل المؤسسات، تميل إلى خلق وتطوير جماعات صغيرة دافئة، لتقوّي الشعور بالانتماء إلى “نحن” جديد تكون كالمرآة لحاجاتنا. فتتأسس كل البدع، قبل كل شيء، على روابط شخصية قويّة تتمثل كحاجة لازمة وحقيقة لا بدّ منها، ما يسمح لكل عضو في البدعة أن يجد استجابة لتساؤلاته وحاجاته المحدّدة، لديه ولدى الآخرين فينصهر في تبعيّة يمنع فيها كل اعتراض أو سؤال! نلاحظ دائما أن لدى البدع رقة قوية وكثير من المجاملات والترحيب (بالغريب خصوصًا). ففي عالم حيث يشعر الجميع بالخيبة من التجزئة والغربة والانقسام – على كل الأصعدة – طيّب أن تجد مكانا يبشّون لك فيه وتشعر بأنكم متحدين متراصّين. وعلى الرغم من كثرة وسائل الاتصال، بل بسبب كثرتها، يصل الأمر ببعضهم أن يزهق من هذه الكثرة والتنوّع، فيتولد لديه شكل من أشكال القرف والشعور بالضياع ويتمنى أن يسلّم حياته ويرتاح فيقودونه ويقولون له كيف يأكل ويشرب، إذ ليس أعنف من الشعور بالمسؤولية والذنب والتقصير، في البدع يشعر الإنسان بالاقتراب من الآخرين واقتراب الآخرين منه بلا أحكام أو محاسبة أو دينونة. البدع إذن مسألة نفسية مبنيّة على أساليب خاصة قال تشارلز مانسون Manson(1934 – 2017) وهو من أشهر مجرمي سبعينيات القرن العشرين: “يمكنني إقناع أي شخص بأي شيء إذا ما كرّرته كثيرًا بما فيه الكفاية وخصوصا إن لم يكن لدى ذلك الشخص أي مصدر آخر للمقارنة”! فالبدع تعتمد التلقين بجلسات عقائدية مطوّلة ومستمرّة وعلى التكرار، بحيث تتغيّر شخصية وسلوك الأتباع والمجنّدين من دون السماح لهم بالمناقشة والمعارضة فيصبحون ضحايا التلقين. أي يتم التعدّي على خصوصيتهم ونفسيتهم بعدّة طرق: سيطرة دائمة على التفكير وعمليات ذهنية وعقلية تتغلغل فيهم بأساليب متنوعة، إلى جانب خلق القلق الذي يثار لدى الشباب المتحوّلين إلى تلك البدعة، مصحوبًا أحيانًا بقسوة نفسيّة واقتحام وعنف. هناك انتقادان آخران يوجَهان في الغالب إلى البدع وهما خلق أشكال من الحرمان لزيادة التبعية: حرمان من النوم والطعام لدى الأتباع ما ينتج عنه نقص في البروتينات – وهما عاملان ضروريان للغاية لخلق توازن عقلي وجسدي لدى الفرد – النقص يخلق التبعية. يحكى أن نيكولاي تشاوتشيسكو (1918 – 1989) كان يمنع شعب رومانيا أن يأكل الخبز الطازج الحار… فيباع في اليوم التالي كي يأكلوا أقل…). ومن صفات البدع أنها تتكيف مع الأديان، بل تستولي عليها وتحوّرها. معظم البدع المسيحية تشدّد على تفسيرها للكتاب المقدس بطريقتها الخاصة، وغالبًا ما تضيف نصوصًا “مقدسة” من عند مؤسّسها ومن وحيه الشخصي. لكن… … لكن الكتاب المقدس يتنبأ على قيام كبير للبدع والانقسامات: “أجاب يسوع تلاميذه: احذروا لئلا يضللكم أحد. سيجيئ كثير من الناس منتحلين اسمي فيقولون: أنا هو المسيح. ويخدعون كثيرا من الناس” (متى 24، 4-5). كيف نتعرف على البدعة؟ جميع البدع تقع في أخطاء هي الأكثر شيوعًا وموجودة فيها، وهي:
- في البداية مبادئهم الأساسية مطابقة لمبادئ الدين والإيمان، لكن حقيقتها تظهر فيما بعد عندما البدعة تهيمن وتسيطر.
- دائما في البدع تشويه سافر للدين وحقيقته. أي إن البدع تتناول التعاليم والكتب المقدسة وتزيحها وتشوّهها كما يحلو لها.
- تتميز البدع بالسلبية وتمارس النقد المنهجي للديانات الأخرى.
- يلعب المال والاستغلال المالي لأتباعها دورا كبيرا.
البدع، خلط في المفاهيم وتركيبة جديدة للحقائق! مع ذلك، يمكن القول إن هناك العديد من الجماعات الدينية التي بدأت كبدع ثم تطوّرت وتحولت ليأتي من يساعدها كي تتأسس وتصبح جماعات كنسية وحركات ناضجة، هذا التغيير نلمسه في زماننا بما سمّي بالحركة المسكونية، أي محاولة مؤسساتية صادقة للحوار السليم والصادق وهذه الحركة أخذت تشمل الحوار بين الأديان، وهي تحمل رسالة إيجابيّة مخلصة للإنجيل وروح الإيمان. هذه الجماعات لا تعود تسمى “بدعة” لأنها أصبحت تعترف بالآخرين وصار لديها قوانين وحقوق “إنسانية” وتتحمّل المسؤولية. لدينا مؤسسات لحقوق الإنسان تراقب تحركات البدع وتصدر قوائم ودلائل تنُشَر كل سنة وتستحدَث تحت رعاية الاتحادات العالمية وهي تحدّد مَن منها يُعَدُ كنيسة أو بدعة. مثال على ذلك الكتاب السنوي الصادر عن الاتحاد البروتستانتي الفرنسي، طبعة برناباس. ومنظمة خيرية تسمى “جيش الخلاص” l’Armée du Salut، هي أيضا تصدر دليلا سنويا. السبيل إلى التخلص من البدع … هذا السؤال يطرحه عادة الأهل الذي يشعرون أن أحد أولادهم وقع في براثن البدع، وقد يمرّ هؤلاء في فترات صعبة من الحيرة أو التهديد واللجوء إلى العنف والقسوة، لكن يجب أن نسأل أنفسنا بوضوح، ونحاول إعطاء إجابة واضحة إذا رأينا أن أشكال البدع تستمر في كسب المزيد من الأتباع خاصة بين الشباب. إن الطريقة الوحيدة لوقف تصاعد البدع هي العودة إلى القيم الروحية الحقيقية، من خلال إنشاء جماعات أكثر ترحيبًا وأخوّة ودفئًا وأكثر نقدا وثقافة وتسامحا وقبولا للآخرين في اختلافاتهم. … بالعودة إلى روح الإيمان فالإيمان هو بشارة سارة بأن الله خالق جميع الناس، وهو يحبّهم، كما قال يسوع: “هكذا أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”. (يو 3: 16). يريد الله لكل الناس أن يخلصوا ويدعوهم جميعًا للتوبة، أي تغيير العقلية وتقبل الحرية تجاه كل أشكال الخوف من الله وعقابِه أو الوقوع في طمع الثواب. كما يقول الرسول يعقوب: “وأما الذي ينظر في الشريعة الكاملة، شريعة الحرية، ويداوم عليها، ليس بالاستماع إليها فقط سينساها، بل عاملا بها، فهنيئا له فيما يعمل” (يع 1: 25). إن إنجيل المسيح هو خبر سار محرّر يستجيب لأعمق تطلعات البشر في سعيهم إلى السعادة، أولاً على هذه الأرض وأخيراً في السماء: على الأرض هنا، يقف مع كل صراعاتنا وصعوباتنا وتجاربنا، واسمه “عمانوئيل” يعني الله معنا يعزينا في كل ضيقاتنا (2 تسالونيقي 2، 16 – 17). أما في السماء، فلأن يسوع يمنحنا تأكيدًا راسخًا، أنه في اليوم الذي يدعونا فيه الله مرّة أخرى من هذا العالم، سيمسح كل دمعة من أعيننا، وسنعيش معه إلى الأبد في نعيم كامل (رؤ 4: 21). إن البيت الذي بني على الرمل ينطبق على البدع، أما المؤمن فهو من يبني على أساس حرية لا تتزعزع، حرية فاعلة كلها إيمان ورجاء ومحبة. لذا قال الرب: “فمن سمع كلامي هذا وعمل به يكون مثل رجل عاقل بنى بيته على الصخر” (متى 7: 24 – 29). للمزيد في هذا الموضوع راجع: راجع ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحية، تاريخ البدع والفرق الدينية المسيحية. تعريب جمال سالم، 2007 بيروت. كركوك 1 تشرين الأول 2020