مقدمة : ما ان انتشرت الديانة المسيحية حتى اصبحت، عند اتباع الديانة اليهودية والفلسفات الوثينة، هدفاً لهجمات كثيرة تبغي القضاء عليها وعلى المؤمنين بها. فجابه المسيحيون الأولون اضطهادات شتى وعذابات مميتة لكنهم لم يذعنوا للذل با دافعوا عن إيمانهم بشجاعة الرأي وبحجة البرهان وبثقة المؤمن يقينا منهم ان الروح القدس هو الذي يعلمهم ما يحتجّون به. وتشهد على ذلك كثرة النصوص تركها المؤمنون دفاعاً عن إيمانهم في الأجيال الأولى التي نحن بصددها أي من العنصرة حتى أوائل القرن الخامس. لكن هذه النصوص على وفرتها، لم تتطرق باسهاب الى موضوع العذراء لم تكن عندئذٍ موضوع خلاف لاهوتي بل كان ابنها علاوة على الأب والروح القدس، مثار جدل وانتقاد. غير ان هذه الظروف التاريخية لم تحل دون الحديث عن مريم لأن العذراء هي للأيمان المسيحي بمثابة القلب في الانسان، ولأن العذراء هي للإيمان المسيحي بمثابة القلب في الانسان، ولأن الحديث على الابن يقود حتماً الى الحديث على الأم، سيما وان المنطق الأساس للايمان هو المعطيات التي يقدمها الكتاب المقدس.
معطيات الكتاب المقدس:
هناك التحام وثيق بين مريم والمسيح. فاذا كانت الديانة المسيحية هي التبشير أولاً بسرّ المسيح اله ـ الانسان، فلا يعقل أن تهمل التي تجسّد المسيح منها. لذلك توارث المسيحيون تكريم مريم واحترامها باعتناقهم الديانة المسيحية وبإقرارهم بقانون الايمان الذي يذكرهم بأن المسيح تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، كما نقله اليهم القديس لوقا وكما أشار اليه يوحنا الرسول. غير ان هذه المعطيات الكتابية تبلورت تدريجياً في العصور الأولى عندما حاول المسيحيون ان يوضحوا ايمانهم بالمسيح ايضاحاً لا يتنافى مع بديهيات العقل والمنطق. كيف حدث ذلك؟ من البدع الأولى التي عصفت بالإيمان المسيحي، بدعة انكرت على المسيح حقيقة جسده وبالتالي حقيقة آلامه وموته.
فكان لا بدّ من العودة الى مصادر الايمان للشديد على ولادة المسيح البشرية من نسل داوود التي تمت بفضل مريم. وفي هذا المجال برز دور مريم الحقيقي كأم للمسيح انطلاقاً من بشارة الملاك لها والحبل بصورة عجيبة. فمريم لم تكن ممراً أو باباً عَبَرَ به المسيح ليظهر بين الناس بهيئة بشر إنما تجسد حقيقية منها وأعطته جسداً بشرياً حقيقياً كسائر البشر. فعلاوة على ولادته الالهية التي تتخطى الزمن، هنالك ولادة بشرية من مريم العذراء لها تاريخ محدد.
ومن هنا برز دورها الفريد واتضحت معالمه وأسهب الأباء القديسون في شرحه عبر حديثهم عن ابن الله. نتوقف خاصة على بعض هذه المعالم والأفكار التي ستتخذ فيما بعد أبعاداً ومعاني لا نزال نحتفظ بها اليوم كركيزة من ركائز ايماننا.
وهذا ما تعلّمه الكنيسة وتتقرّه بالنسبة لمريم:
1ـ إنها حقاً ام الله بواسطة الروح القدس، وبدون أن تفقدعذريتها.
2ـ إنها المفضلة بالنسبة لجميع البشر، نظراً، للحبل بها بلا دنس أي معصومة من الخطيئة الاصلية، لملئها من النعمة وهي البريئة من كل عيب.
3ـ إنها الشفيعة لجميع النعم الممنوحة من المسيح.
4ـ هي التي انتقلت بالنفس والجسد الى السماء.
أولاً : مريم العذراء منذ عهد الرسل أو في التقليد الرسولي حتى شهادات القرن الثاني الاولى ولغاية مجمع أفسس.
مريم التي عايشت في هذه الفترة، ابنها يسوع المسيح وتلاميذه الرسل الاطهار كانت القديسة العذراء أم المخلص.
كانت حاضرة في جميع لحظات تاريخ الخلاص الحاسمة والاساسية: ليس فقط في بداية (لو 26،1) وعند نهاية ( يو 27،19) حياة ابنها يسوع المسيح ( أي في سريّ التجسد والفداء).
إنما ايضاً ساعة افتتاح أو بداية رسالته وحياته العلنية ( يو 2 عرس قانا الجليل) وعند ولادة الكنيسة (أعمال 4،1). حضور خفي أكثر الأحيان صامت تفعه انطلاقة ايمان نقي وعاطفة حبّ جاهزة لتقبل واتباع برنامج الله وتطلّعات البشر.
إن الفترة التي تتراوح ما بين :بعد موت القديس يوحنا الانجيلي ومجمع أفسس تسلّطت عليها الأضواء تدريجياً حول:
أمومة مريم الالهية، بتوليتها الكاملة والمجملة، وحول قداستها. وقد أتت على مراحل ثلاث:
1ـ فترة اكتنفها الغموض والسكوت ( 90ـ190)
2ـ فترة التردد الباحث ( 190ـ373)
3ـ فترة الحلول المتوافقة المنسجمة (373ـ431)
1ـ الفترة الأولى ( 90ـ190) 202:
كان للعذراء، في أدب القرن الثاني المسيحي، مكانة وديّة، فالنصوص قليلة وكانت بمثابة ترداد لما علّمناه الإنجيليان متى ولوقا بنوع خصوصي: مريم هي ام يسوع، وعذراء في حملها.
هذا ولقد برز في تلك الحقبة ثلاثة مواضيع رئيسية بهذا الخصوص:
الأول : مقارنة مريم بحواء
الثاني:أمومة مريم الالهية وبتوليتها
الثالث:مريم الكنيسة
أ ـ مقارنة مريم بحواء:
لقد قارن الآباء القديسون بين مريم وحواء. فبينما حواء صدقت الشيطان وخضعت له فأصبحت بذلك أماً لبنين خاضعين للموت والهلاك، أصبحت مريم على ايمانها بالله وبكلامه أم المخلص وأم الحياة. تلد البنين، أي المؤمنين بابنها، لحياة جديدة تفوق ادراك العقل البشري.
ب ـ أمومة مريم الالهية وبتوليتها:
لقد استرعت انتباه المسيحيين الاولين أمومة مريم الفريدة:
انها أم وبتول ولا انفصال بين هاتين الحقيقتين فالبتولية تبين بوضوح كلي ان المولود منها هو من أصل الهي. ومن حملت في أحشائها ابن الله ينبوع القداسة لا يليق بها ان تتحد ببشر كسائر الناس أو النساء. فبقاؤها بتولاً مرتبط بقداستها لأنها ممتلئة نعمة ومتربط أيضاً بابنها لأن ينبوع المحبة والنعم حلّ فيها، لأنها أم المخلّص.
من هذه الولادة العجيبة وما لها من حلة بالمخلص، ومن التعمق الذي حصل في تفهم سرّ المسيح الانسان والاله كان لا بد ان تتضح العلاقة التي تربط مريم بالمسيح الاله، فظهرت باكراً في الصلوات والعبادات المريمية أمومة مريم الالهية. فمريم هي بكل حق والدة الاله يسوع لأن المسيح لا يتجزأ: انه شخص واحد في طيبعتين، فمريم هي أم ذلك الشخص الواحد يسوع المسيح الاله والانسان.
ج ـ مريم والكنيسة
لقد ولد المسيح من مريم البتول. ونحن أيضاً كمؤمنين نولد ولادة عجيبة من أحشاء أمنا الكنيسة لحياة الهية. غير ان ولادتنا هي ولادة روحية تتم بفعل الروح القدس. غير أن ولادتنا هي ولادة روحية تتم بفعل الروح القدس. فالكنيسة هي كالعذراء مريم. مريم ولدت يسوع بقوة الروح ولادة جديدة وفريدة بفعل الروح القدس تحافظ على بتوليتها بأمانتها للمسيح وبايمانها به . وبقدر ما تغذي هذا الايمان وتنقله الى أبنائها تزداد تكريسها للمسيح فتصبح بكليتها له دونما تردد مثلما كانت البتول مريم بكليتها لله آمنت بما قيل لها من قلبه وتسلمت اله بملء رضاها وحبها.
هذا الإيمان، على أساس الرضى والحبّ، أبان دور مريم في سر التجسد أو في سر الخلاص خلاص الجنس البشري بكامله ولا عجب أن يعزي اليها دور في تجديد البشرية الذي بدأ بتجسد الابن.
حــــواء مريم الكنيسة
ومن أشهر الآباءالذين برعوا في هذا المضمار ” المريمي” في تلك الفترة:
مار اغناطيوس الانطاكي حوالي ( السنة 110)
مار يوستسنوس حوالي ( + 163)
وبنوع خصوصي القديس ايريناوس ( +202)
2ـ الفترة الثانية : (202 ـ 373)
ها نحن في مطلع القرن الثالث حيث العدد الوفير من الكتابات، وقد ظهر في وجهه المعضلات اللاهوتية والكنيسة المختلفة.
مريم لم تظهر مباشرة كموضوع مجادلة وبحث، اذ كان موضوع البحث مركزاً على سرّ الثالوث الأقدس والمسيح. لكنه من الصعب وحتى من المستحيل البحث في القضايا والمواضيع المسيحانية دون اللجوء الى الأمومة العذرية وبالتالي الى إبراز شخص مريم.
من هنا ظهرت عدة نقاط، كانت موضوع تفكير وبحث لاهوتي.
أ ـ أمومة مريم ” ثيوتوكوس” THEOTOKOS ( ضد مرسيون، معتنق البدعة المظهرية)
ب ـ بتولية مريم ( في الميلاد ـ وبعده)
ج ـ مشاركة مريم في الخلاص
د ـ مريم والكنيسة
ومن أشهر آباء هذه الحقبة الذين عالجوا تلك المواضيع هم:
في الشرق: كليمنضوس الاسكندري ( + 215)
ترتوليانوس ( + 220)
أوريجانوس ( + 253ـ54)
مار افرام (+ 373)
باسيليوس الكبير ( + 330ـ379)
كيريللس الاورشليمي (+ 384)
غريغوريوس النزيزي ( 329/30ـ390)
غريغوريوس النيصي (+493)
يوحنا فم الذهب ( 344/54ـ407)
في الغرب: القديس امبروسيوس (334ـ397)
القديس أوغوسطينوس ( 354 ـ 430)
الفترة الثالثة: ( 373ـ431)
حقبة تبلورت فيها معالم شتى، بعد المرحلة أو الفترة السابقة التي نشط خلالها البحث. ففي هذه الفترة ترسخت الأفكار وانجلت وأصبحت أكثر وضوحاً مما كانت عليه في السابق، سواء أكان بالنسبة لآباء الكنيسة أو بالنسبة للمعتقد نفسه الذي برز في وجه المناهضين كالمانيين ( الانحراف والفسق في الزواج)
والمظهريين (جسد المسيح ليس الا مظهر)
ونسطور (مريم هي أم المسيح الانسان)
والسنطوريين (نفوابان تكون مريم أم المسيح هي ام الله)
وهذا يعني الالوهة عن المسيح.
لذلك أيضاً في هذه الفترة أعيد الكلام وبطريقة أوضح وأجلى عن البتولية الدائمة للعذراء مريم، عن بتوليتها في الميلاد عن قداستها، وعن كونها أم الله ” ثيوتوكوس”.
وتجدر الاشارة الى بروز مسألتين خلال هذه الفترة الزمنية،
الأولى حوالي سنة 377 حول انتقال العذراء
الثانية حوالي سنة 429 حول الحبل بلا دنس.
أ ـ مسألة انتقال العذراء:
يعود الفضل في طرح هذه المسألة، ولأول مرة الى القديس أبيفانوس في رسالته الشهيرة الى مسيحيي شبه للجزيرة العربية حيث يقول:
” لا نجد الكتب المقدسة، لا موت مريم، لا اذا ماتت، لا اذا دفنت، لا اذا لم تدفن، فالكتاب المقدس حافظ على الصمت الكامل حيال هذه المسألة نظراً لكبر المعجزة”.
ويعتبر ان نهاية مريم كانت وبدون لائقة بها.
ب ـ الحبل بلا دنس:
ظهرت هذه المسألة من خلال صراع القديس مع الباجانيين. فاثنين منهم تعرضا لقداسة مريم:
الأول بيلاجو: يمكن للإنسان أن يحقق خلاصه بقوته الشخصية، وهكذا أيضاً بالنسبة لقداسة العذراء مريم.
القديس أغوسطينوس قبل بإثبات خصمه انما أعطاه منحنى ومعنى مخالف إذ قال: قداسة العذراء هي استثنائية ومبدؤها هو نعمة الله وليس القدرية.
الثاني حوليانوس الاكليني: وقد رفع الصراع حول نقطة بالغة الدقة والأهمية. اذ لم يتوقف حول الخطايا الحالية، انما تطرق الى موضوع الخطيئة الأصلية، انه اول من اعترف بأن العذراء لم تتأثر بفعل الخطيئة الأصلية.
بالواقع، جوليانوس، اقترح صحيحة انما من منطلق خاطئ، فيقول: ان الحبل بلا دنس ليس بميزة فريدة من نوعها للعذراء وحدها ولا فعل خصوصي من النعمة الالهية انما هو عمل مشترك لكل المسيحيين.
وبالمقابل يوضّح القديس أغوسطينوس بأن الحبل بلا دنس هو بمثابة خاصية فريدة ووحيدة تميّزت بها مريم، وذلك بفعل المثابرة على هذا الانعام بواسطة نعمة المخلص.
هذا وفي رسالة وجّهها البابا سيريتشو عام 392 الى أنيزيوس أسقف تسالونيقيا، ردّ بواسطتها على موقف بونوسيوس بون صوفيا، القاتل بأن العذراء بعد ولادة المسيح اعطت الحياة لأولاد أخر ” اخوة المسيح”.
فيقول البابا:” ما اختار المسيح ان يولد من عذراء لو لم يشأ بأن تكون بتولا عفيفة بعيدة عن تلطيخ عرش الملك الأبدي حيث تكون جسد الربّ، بعلاقة انسانية”.
وعلى أثر كل ما تقدّم ادخلت مريم العذراء في العبادة المسيحية حيث دعاها:
أبيفانوس (377) أم الاحياء # حواء
سفريانوس الغابلي (408) أم الخلاص
تيودوتوس الانشيري (488) أم الوفرة
بروكولوس القسطنطيني ( 446) مريم هي التي ولدت السرّ.
وبهذا وانطلاقاً من هذه الحقبة التاريخية ابتدأت الصلوات والابتهالات ترفع الى مريم العذراء. وأصبح للعذراء مقاماً في الاحتفالات الليتورجية نسبة لعملها في سرّ التجسد وعندما بوشر بالاحتفال بهذا السرّ أصبح لإنجيلي الطفولة عند متى ولوقا مكانتهما في الطقوس الليتورجية موحيين للصلاة والتأمل والتفسير.
منذ أواسط القرن الرابع، وقبل القديس باسيليوس، كان الشرق ينشد ينشد العذراء في قانون القداسة.
هذه الجولة السريعة في العصور المسيحية الأولى قادتنا الى استكشاف بعض الأفكار الاساسية التي تبلورت لدى الآباء القديسين عن مكانة مريم ودورها في الحياة المسيحية بالرغم من ان الاهتمامات كانت موجهة بالأخص الى المسيح والثالوث. وهذا يدلنا على أن تكريم مريم في الكنيسة ليس مستحدثاً، وليس وليد عاطفة مكبوتة انما هو من صلب العقيدة المسيحية التي تسلمناها من المسيح نفسه.
فإذا كان الله خصّ مريم بدور في تاريخ الخلاص والكنيسة وإذا كان المسيحيون منذ القدم قد تمسكوا بتكريم مرم بالرغم من كل الصعوبات والاضطهاد، فهل نكون اليوم أقل منهم تمسكاً بها؟
قراءة من القديس يوستينوس
مريم وحواء
نعرف أخيراً أنه صار انساناً بواسطة العذراء.
فانتهى العصيان بالطريقة التي بدأ بها ، مروراً بالحيّة. كانت حواء عذراء بلا فساد. واذ تمخّضت بكالم الحية، ولدت عصياناً وموتاً والحال أن العذراء مريم تمخّضت بالايمان والفرح، عندما تشرّها الملاك جبرائيل بأن روح الرب يحلّ عليها وقدرة العلي تظللها، ولهذا فالمولود منها قدّوس وابن العلي يدعى، وأجابت:” فليكن لي بحسب قولك”.
لقد ولد اذا منها، ذاك الذي، كما أشرنا تكلّمت عنه كتب كثيرة، والذي به يبيد الله الحية مع الملائكة والناس الذين يشبهونها. (المحاورة بين تريفون، 10)
قراءة من مار افرام
مريم وحواء
· بعونك أنشد أناشيد الحكمة،
للبتول صارت أمـــاًَ بأعجوبــة!
فهـي بتول، وأمّ معــاً سبحــان من اصطفاها!
مريم فخـر جميــع البتولات، وهي البتــول علّة الخيرات،
ومنها النـور علــى القابعيــن في الظلمـــات.
· بمريم رأس حواء المطأطأ ارتفع، لانها حملت الطفل قاهر الحية!
بتولتان هديتان للجنس البشري،
هذه علة الحياة وتلك علة الموت،
بحواء ظهر الموت وبمريم عادت الحياة.
تبارك من أشرق لنا من مريم وخلّصنا.
( عن الطوباوية مريم،2)
قراءة من مار افرام
طوباك يا مريم!
· طوباك يا مريم!
قد صرت أماً لملك الملوك،
فحلّ في حشاك حلولاً مقدساً، الذي مجده يملأ السماوات.
طوبى لصدرك أحبه وأرضعه،
ولفمك تاق اليه وله غنّى،
ولذراعيك ضمتّاه فصرت مركبة
وزيّحت المشتعل نوراً.
· طوباك يا مريم وقد أصبح حضنك
قصراً للملك فمال اليك
من يضفر التيجان للملوك،
ومن يوع المراتب للأسياد!
من قبيلة يهوذا منبتك،
ومن بيت داود عشيرتك، انه لشريف نسبك.
وقد صرت أنت البتول أمّاً لابن داود!
( عن الطوباوية مريم، 9)
قراءة من مار افرام
من هي العذراء مريم؟
· هلموا أيها الحكماء نتأمل، معجبين، الأم البتول بنت داود،
البهية الوالدة عجباً، الينبوع الذي فاض بالنبع،
سفينة الأفراح حاملة من عند الأب ثقل البشري،
انها في حشاها الطاهر حملت وزيحت ربّان الخلائق
العظيم الذي به رفرف السلام في الأرض وفي السماء.
· هلّموا نتأمل معجبين النقيّة العجيبة ذاتها،
لأنها وحدها في البشر ولدت بدون زواج.
نفس النقية كانت طافحة بالإعجاب وعقلها كل يوم
كان يسبّح وهو متبهج بأمرين ضدّين: عذراء وأم!
تبارك الذي أشرق منها!
· حمامة فتية حاملة لنسر قديم الأيام تحمله وتسبح له
بأناشيد الحب: ايها الولد الغني،
يا قيثارة الألحان الصامتة كالطفل، مرني أن أنشد لك
على كنّارة تحرّك ألحانها الكروبين، مر فأنشد لك.
· مقامك يا بنيّ ولا أرفع منه، وقد شئت فجعلتني معاماً لك
السماوات تضيق بمجدك والبتول تحملك.
فليقبل حزقيال ويشاهدك على ركبتيّ.
وليجث ويسجد لك وليشهد أنك أنت
هو الذي رآه هناك، في الأعالي على مركبة الكروبين وليطوبني
لأجل الذي احمله.
· اندهشت بي المركبة لأني حاملة ربّانها
والكروبين يهتفون مرتعدين: ” تباركت يا عظيماً في مقامك”
هوذا مقامك عندي، وفي حضني سكناك.
سكناك على ركبتيّ وكرسيّ عظمتك على ذراعي!
أهتف مع الكروبين: ” تباركت في مقامك”.
· اشعيا النبي تنبّأ أن هوذا العذراء تحبل وتلد.
هلمّ وانظر اليّ وابتهج معنا لأني ولدت وأنا بتول
يا نبيّ الروح الغني بالنبؤات
تأمل عمّانوئيل الذي محجوباً عنك
وبصوتك الرهيب قرّع صهيون التي رذلتك وأبت أن تصدّق!
· تعالوا اليّ أيها الحكماء وأنتم يا أيها المدافعون، رسل الروح
وأنتم أيها الأنبياء الذين شاهدوا الخفيّات برؤاهم الحقيقية،
أيها الزارعون الذين زرعوا ورقدوا على أمل،
استيقظوا وابتهجوا بثمار زرعكم فها اني احتضن سنبلة
الحياة الواهبة الخبز للجائعين،والشبع للمحتاجين!
افرحوا معي لأني حملت مجمل الأفراح.
(عن الطوباوية مريم 7)
قراءة من مار افرام
البتول مريم
· ان البتول دعتني لأرنّم سرّ بتوليتها العجيب،
فأعطني يا ابن الله عطية منك عجيبة.
ومن عطيتك هذه أغنى كنّارتي فأرسم صورة لوالدتك بهية.
· البتول مريم ولدت ابنها بالقداسة
وأرضعت حليبها مرضع البرايا ركبتاها حامل الأكوان
وهي بتول وهي أم! ومن ليست هي ؟
· جسدها مقدس ونفسها جمية وعقلها طاهر،
فكرها ولا أصفى، ضميرها ولا أنقى،
عفيفة لطيفة، نقية فريدة، بهيّة بديعة.
· فلتفرح بمريم جميع أجواق العذارى
لأن واحدة منهنّ انحنت ووضعت الجبار الحامل البرايا.
وبه البشرية المستعبدة حرّرت.
· فليفرح بمريم آدم الأول الذي لسعته الحيّة،
فمريم أعطته نبتة إن أكل منها سحق الحية
وبها يشفى من لسعة الحية القاتلة.
· فليفرح الكهنة بالمباركة، انحنت وولدت
الكاهن العظيم الذي صار ذبيحة وعفاهم من سائر الذبائح.
وهو بإرادته صار ذبيحة وأرضى أباه.
· فلتفرح بمرم كل أجواق الأنبياء لأنه انتهت رؤاهم
بها كملت نبوءتهم وبها تحقّقت وتعزّزت.
(عن الطوباوية مريم،1)
قراءة من مار افرام
البتول مريم
· فليفرح بمريم كل أجواق الآباء، هي حظيت ببركتهم،
وهي أكملتهم بابنها، به تنقّى الأنبياء والأبرار والكهنة.
· مريم أعطت البشر ثمرة حلوة، بدل الثمرة المرة
التي قطفتها حواء من الشجرة، بثمرة مريم تتلذّذ كل الخليقة.
· شجرة الحياة في الفردوس احتجبت، وبمريم نمت وأزهرت،
وفي ظلها الخليقة استظلت، وعلى القاصي والداني ثمارها وزّعت.
· مريم حاكت حلّة المجد وألبستها أباها المتخفّي بين الأشجار.
والذي امرأته صرعته،عضدته ابنته فعاد جباراً.
· الحية حواء حفرتا حفرة لآدم وزجتاه فيها،
فتصدت مريم والملك الطلفل ونزلا وأصعدا من الهوة آدم
بالسر الخفيّ الذي ظهر وأحياه.
· الكرمة البكر أعطت عنقوداً حلواً ثمره، به زالت غصّة
آدم وحواء الباكيين، ذاقا دواء الحياة فزالت عنهما الغصّة.
( عن الطوباوية مريم، 1)
قراءة من يوحنا الدمشقي
وفاة مريم
ان جسدها المصان من الفساد هو ينبوع البركات.
آه ! كيف يجري ينبوع الحياة، نحو الحياة، ماراً بالموت؟ يا للعجب! ان التي في الولادة تجاوزت حدود الطبيعة، تنحني الآن تحت شرائعها فيخضع للموت جسدها الطاهر؟ اذ يقتضي أن نتخلّى عن المائت لنلبس عدم الفساد، لأن ربّ الطبيعة عينه لم يرفض محنة الموت (تلميح الى كور : 1ـ5 ،23) لأنه يموت بحسب الجسد وبموته يبيد الموت، فيعطي الفساد عدم الفساد ويجعل من الموت مصدر القيامة. آه ! كيف ان هذه النفس التقية، عندما تخرج من المسكن الذي استقبل الله، يتقبّلها خالق العالم بيديه، ويؤدي لها الاكرام اللائق في الطبيعة كانت “الأمة”، أما في أعماق محبته للبشر غير المدركة، فقد جعل منها بحسب تدبيره، والدته الخاصة، لأنه تجسّد حقيقة، ولم يتظاهر ببشريته. لقد كانت أجواق الملائكة تراك بدون شك، وتترقّب رحيلك عن حياة البشر. يا له من ممر عديم المثال وفّر لك نعمة الرحيل نحو الله لأنه، اذا كان الله يمنح هذه النعمة جميع عباده الذين فيهم روحه ـ وهو يمنحها كما يعلّمنا الايمان ـ فالفرق شاسع بين عباد الله ووالدته. فماذا نسمّي هذا السرّ الذي يتم فيك؟ أجل، كما تشاؤه الطبيعة، ان نفسك الكلية القداسة والطوبى، افترقت عن جسدك المبارك الطاهر، وإذ كان جسدك قد وضع في قبر بحسب الشرع العام، فمع ذلك لا يقيم في الموت ولا يلاشيه الفساد في خروجه من هذه الحياة، ووضع في مكان أفضل وأكثر الوهية، بعيداً عن منال الموت، ويقدر على أن يبقى الى منتهى الأجيال.
( العظة الأولى عن الانتقال،10)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي
يتخذ الموت معنى جديداً.
يا لها من أعجوبة تفوق الطبيعةحدّا !ّحقيقة مدهشة ! انّ الموت المكروه قديماً والممقوت، يحاط بالتسابيح ويعلن سعيداً: هذا الذي كان قديما يسبّب الحزن والحداد والدموع وغمّ المضني، ها هو يبدو سببا للفرح وموضوع عيد احتفالي. ذلك، لأن نهاية حياة عباد الله الذي يعلن موتهم سعيداً، هي وحدها تضمن لهم قبولهم عند الله، ولهذا يطوّب موتهم. لأنه يضع الخاتم على كمالهم ويعلن غبطتهم، مانحاً اياهم ثبات الفضيلة، تبعاً للآية:” لا تغبّط أحداً قبل موته”. غير أننا لا نطبّق هذا الكلام عليك، لأن غبطتك لا تأتي من الموت، ولم تتمّ وفاتك كمالك.كلا، فليس رحيلك عن هذه الدنيا، هو الذي يثبتك في النعمة. لأن ابتداء ووسط ونهاية كل الامتيازات السامية وبقاءها وتثبيتها الحقيقي، كان لك في الحبل البتولي والحلول الالهي والولادة بدون أذى. ولهذا قلت بحق، انه، ليس عندك موتك، بل منذ هذا الحبل عينه، “يطوبك جميع الأجيال” (لوقا 48،1). كلا فليس الموت هو الذيت جعلك سعيدة، بل أنت الذي جعلته يتلألأ. لقد بدّدت انه فرح.
(العظة الاولى، 12)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي
فائدة الانتقال.ما ينجم عن هذا السرّ من نعم
لماذا الانتقال؟ لقد كان من الواجب أن يكابد أسر المهاوي الأرضية، هذا المقر اللائق بالله، الينبوع الذي لم تحفره يد البشر، حيث تتفجّر المياه التي تطهّر المياه من الخطايا، الأرض غير المحروقة، التي تنتج الخبز السماوي، الكرمة التي أعطت بدون أن تروي خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الاخضرار ذات الثمار العذبة. ولكن، كما أن الجسد المقدس النقي، الذي اتخذه الكلمة الالهي منها قام من القبر في اليوم الثالث، هكذا يجب أن تؤخذ هي من القبر، وان تجتمع الأم بابنها. كما نزل نحوها، هكذا يجب أن ترفع هي عينها، وهي موضوع محمبته حتى ” القبة الأسمى والأكمل” الى ” السماء عينها” (عبرانيين 11،9 ـ24)
لقد كان من الواجب أن تأتي لتحلّ في قباب ابنها تلك التي افسحت ملجأ في حشاها للابن الالهي. وكما قال الربّ انه يجب أن تكون فيبيت ابيه، هكذا كان يجب ان تحلّ والدته في قصر والدها، ” في بيت الربّ وفي ديار بيت الهنا” (مزمور 1،133 و 2،134) لأنه اذا كان هناك “مقر الفرحين” ( مزمور 7،86) فأين تسكن اذاً سبب الفرح؟
لقد كان يجب ان تصون جسدها من الفساد حتى بعد وفاتها، تلك التي لم تثلم بكارتها في الولادة.
كان يجب أن تعيش في القباب الالهية،تلك التي حملت خالقها في حشاها طفلاً صغيراً كما يجب أن تأتي العروس التي اختارها الأب، فتقطن في السماء، المقرّ الزوجي.
كان يجب على تلك التي شاهدت ابنها على الصليب وتلقّت حينئذٍ في قلبها رمح الحزن الذي كان قد وفّره لها في الولادة، ان تشاهده جالساً الى جانب ابيه.
كما يجب أن تحظى مع الله بخيرات ابنها، وأن تكرّمها كلّ الخليقة أماً وأمة لله. ينتقل الإرث دائماً من الوالدين الى الأبناء، اما هنا، فعلى حدّ تعبير احد الحكماء، تعود ينابيع النهر المقدسة الى مصدرها لأن الابن أخضع لوالدته الخليقة بأجمعها.
( العظة الثانية، 14)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي.
ابتهال القديسين وسائر الكنيسة الى العذراء مريم.
عندئذ صرخ آدم وحواء وكل جدودنا بشفاه باسمة: سعداً لك، أيتها الفتاة التي ألغت عنا عقاب المخالفة! لقد ورثت عنا جسداً فاسداً، وحملت لأجلنا في حشاك لباس عدم الفساد (كور 1ـ35،15) اتخذت الحياة من جسدنا وأعطيتنا بدورك حياة سعيدة، لقد ألغيت الألم وسحقت فيود الموت. اصلحت مقرّنا القديم، نحن أغلقنا الفردوس وأنت فتحت لنا من جيديد ممراً الى شجرة الحياة. بخطيئتنا انقلب الخير الى شقاء، وبفضلك خرج من هذا الشفاء خير كبير. كيف تذوقين الموت انت البريئة من الدنس؟ سيكون لك الموت جسراً يقود الى الحياة وسلّماً نحو السماء سيكون الموت ممراً الى الخلود، أجل، انت سعيدة أكيداً أيتها الفائقة الغبطة! من غير الكلمة،قدّم نفسه ليتحمّل ما انجز لأجلنا؟
وكل جوقة القديسين وحدت مدائحها:وحدت مدائحها: لقد حققت نبؤاتنا ووقرت لنا الفرح المرتقب، لأننا بفضلك تحررنا من سلاسل الموت. هلّمي الينا، ايتها الكنز الالهي حاملة الحياة، هلّمي الينا، أيتها الكنز الالهي حاملة الحياة، هلّمي نحونا نحن الذين نتوق اليك، انت الذي شفيت غليلنا!.
(العظة الثانية عن الانتقال،8)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي.
رموز العذراء في العهد القديم.
لقد أصبحت عدن الروحية، الأقدس والأرفع من القديمة. ففي الأولى كان يسكن آدم ” الأرضي” أما فيك فيحل الربّ ” الآتي من السماء” (كور الاولى 47،15).
لقد مثلتك سفينة نوح التي انقذت الخليقة الثانية:
لأنك ولدت المسيح، خلاص العالم، الذي غرق الخطيئة وسكّن أمواجها.
أنت التي رمزت اليك فصوّرتك العليقة، ورسمتك الأرواح التي خطّطتها يد الله، وأخبر عنك تابوت العهد، ومثلتك مجمرة الذهب والمنارة ولوحا العهد وعصا هارون التي أفرخت (عبر 4،9 بحسب سفر العدد 23،7). ولد منك من هو شعلة الألوهية “تعريف الاب وتعبيره” المنّ السماوي العذب، الاسم الغير المسمّى “الذي يسمو على كل اسم” النور الأزلي الذي لا يداني (تيموتاوس 1ـ16،6) ” خبز الحياة” النازل من السماء، الثمرة التي جنيت بدون عناء: وقد ظهر منك بالجسد.
ألست أنت التي سبق ودلّ عليك الأتون الذي امتزجت ناره بالندى (انظر دانيال 3ـ50،49) رمز النار الالهية فحلّت فيك؟
لقد كان حياء ابراهيم دليلاً واضحاً عليك: حيث جاءت الطبيعة البشرية فقدمت الخبز المليل، لله الكلمة الذي حلّ في حشاك.
( العظة الاولى عن الانتقال ،8)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي.
رموز العذراء في العهد القديم
أكاد أغفل عن سلّم يعقوب. ماذا؟ ألا يتضح لكلّ أحد صورة عنك؟ فكما ان يعقوب رأى السماء متصلة بالأرض بطرفي السلّم، وعليه ينزل الملائكة ويصعدون، وقد اشتبك معه في صراع رمزي، القويّ الذي لا يغلب، هكذا أصبحت أنت الوسيطة والسلّم التي نزل عليها الله نحونا، وحمل ضعف طبيعتنا واعتنقها وامتزج بها، وجعل من الانسان روحاّ يرى الله.
وما قولي في آيات الانبياء، الا يجب أن تعود اليك اذا اشتئنا ان نثبت صحّتها؟ ما هي تلك الجزّة التي أشار اليها داود، والتي ينزل عليها كالمطر، ابن الملك وإله الجميع، الذي لا بداية له ويملك كأبيه، الست انت بكل وضوح تلك الجزّة؟
من هي العذراء التي قال عنها اشعيا انها تحمل وتلد ابناً يدعى ” الهنا معنا ” أي انه يظل الهاً ولو صار انساناً(اشعيا 14،7)؟
من هو جبل دانيال الذي قطع منه خجر الزاوية التي هي المسيح، بغير يد بشرية؟ هو انت التي حبلت بلا زواج وتظلّين دائماً عذراء؟
( العظة الأولى عن الانتقال 8ـ9)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي.
ابتهال القديسين وسائة الكنيسة الى العذراء مريم.
غير ان كلاماً لا يقل إلحاحاً كان يمسك بها، هو كلام جمهور القديسين الذين كانوا يحيطون بها وهم لا يزالون أحياء في أجسادهم. كانوا يقولون: إبقى معنا، فأنت عزاؤنا والمشجّع الوحيد لنا على الأرض . لا تدعينا يتامى، أيتها الأم، نحن الذين نقتحم الأخطار لأجل ابنك الشفوق. هل باستطاعتنا أن نحتفظ بك، كراحة في متاعبنا ومبرّد لعرقنا؟ ابقي، اذا شئت، انك تستطيعين ذلك، ولا يصدّك اذا كنت ترغبين في الابتعاد. اذا كنت تغادرين أنت مقرّ الله، فدعينا نذهب معك، نحن المدعوّين شعبك بسبب ابنك.
ان لك فيك التعزية الوحيدة الباقية لنا على الأرض. نحن سعداء بأن نعيش معك اذا عشت، وان نتبعك بالموت اذا متّ!ان الموت عينه هو لك حياة وحياة أفضل خير من الحاضرة بما لا يقدّر. أمّا بشأننا، فهل تبقى الحياة حياة اذا حرمنا من رفقتك؟
هذا كان كما اتصوّر الكلام الذي وجّهه الرسل مع سائر أبناء الكنيسة الى العذراء الطوباوية. ولكن عندما شاهدوا أم الله تسارع في خروجها من هذه الدنيا، وتندفع اليه بكلّ رغبتها، شرعوا يترنمون بالتسابيح المناسبة لهذا الرحيل، ثميلين بالنعمة الالهية، واضعين أفواههم تحت تصرف الروح واذ كانوا مختطفين عن الجسد، تائقين الى مرافقة أم الله الراحلة، سبقوا رحيلهم ذاته على قدر استطاعتهم بحدّة رغبتهم (كور 2ـ1،5 ـ8).
وبعد أن أتموا ما يمليه عليهم الواجب والغيرة وضفروا من أناشيدهم المقدسة إكليلاً من زهور فاخرة ومتنوعة، نالوا قسطهم من البركة، ككنز آتٍ من الله فألقوا حينئذٍ كلمات الرحيل والساعة الاخيرة: وكان فحواه، كما أظن أن الحياة الحاضرة سريعة العطب وزائلة وهي تلقي الأضواء على اسرار الخيرات العتيدة.
( العظة الثانية ، 8ـ9)
قراءة من القديس يوحنا الدمشقي
تكريس وصلاة للعذراء
نحن أيضاً اليوم، نقف أمامك، أيتها الملكة، أجل أكرّر، الملكة، والدة الله العذراء: نعلّق عليك رجاءنا، كما بمرساة أمينة وراسخة ( راجع عبرانيين 19،6) نكرّس لك عقلنا ونفسنا وجسدنا، كلّ منّا بجملته: نريد أن نكرّس لك عقلنا ونفسنا وجسدنا، كلّ منّا بجملته: نريد أن نكرّمك ” بمزامير وتسابيح وأغان روحية” (أفسس19،5 وكولوسي 16،3) بقدر ما نستطيع، لأن تكريمك بحسب مقامك بفوق استطاعتنا. اذا صحّ، بحسب القول المأثور، ان ما يقدّم من اكرام الى سائر الخدم هو دليل محبة نحو السيد العام، فهل يمكن اهمال اكرامك، انت والدة سيّدك؟ الا يجب ان نتطلّبه برغبة؟ بهذا نثبت بالأحرى تعلّقنا بربنا. وماذا أقول؟ يكفي من يحفظون تذكارك بتقوى أن ينالوا موهبة ذكراك التي لاتقدّر: فهو لهم ذروة الفرح الدائم أي غبطة واي غبطة وأي خير لا يملأ من يجعل من عقله المقرّ الخفي لذكرك المقدّس!
هذا هو عرفان الجميل، ومحاولة فكرنا الضعيف، الذي أنعشه حبّك فنسي ضعفه الذاتي. ألقي علينا نظرك، ايتها الملكة السامية، والدة ربنا الرحيم، دبّري مصيرنا كما تشائين، قودي سيرنا نحو مرفأ الارادة الالهية الأمين.
وأنعمي علينا بالفرح العتيد، النور البهيج الذي يتلألأ في وجه كلمة الله عينه، الذي تجسّد منك ومعه للأب المجد والكرامة والقدرة والعظة والجبروت، مع روحه القدوس، الرحيم المحيي الآن وكلّ أوان والى دهر الدهور، أمين.
( العظة الاولى عن الانتقال ،14)
ثانياً: تكريم العذراء من مجمع أفسس حتى القرون الوسطى
1ـ مجمع أفسس : التحديد
في سنة 431 إلتأم مجمع في مدينة أفسس ( في تركيا اليوم) ضم أساقفة الكنيسة للنظر في قضية الوحدة في المسيح: اي أن المسيح هو ذاته اله وانسان. غير أن تحديد هذه العقيدة أوضح بالوقت نفسه مكانة مريم ودورها بالنسبة الى المسيح. فمريم ليست هي ام المسيح الانسان وحده انما هي والدة المسيح الاله. وهذا التحديد جسم جدلاً لاهوتياً من دعاته بطريرك القسطنطينية نسطوريوس الذي كان يبشر بأن مريم هي أم المسيح الانسان وليست بالتالي والدة الاله بالحقيقة. غير ان الشعب المسيحي ثار عليه وطالب بابعاده عن الكنيسة والوعظ فيها. لذلك بعد هذه الحادثة عقد مجمع أفسس وجاء فيه: ” لم يولد أولاً من العذراء انسان عادي، حلّ فيه الكلمة فيما بعد، لكن الكلمة المتحد بالجسد في الحشى البتولي، هو نفسه ولد حسب الجسد… لذا لم يتردد الآباء في تسمية مريم أم الله، لا بمعنى أن طبيعة الكلمة الالهية صدرت عن العذراء القديسة، بل بمعنى أن كلمة الله أخذ منها لذاته جسداً مقدساً تنفحه بنفس روحية. ربما أنه اتحد اتحاداً أقنومياً بهذا الجسد نقول عنه أنه ولد حسب الجسد”
2ـ بعد التحديد:
هذا التحديد يعني ان ابن الله ولد من مريم، وهو تشديد على الوحدة في المسيح وتمجيد لمريم. لم يأت التحديد بجديد، لأن تكريم مريم كوالدة الاله كان شائعاً عند المؤمنين. فالمجمع نفسه عقد في كنيسة أفسس المكرسة لمريم والدة الاله. انما انطلاقاً من هذا المجمع أخذ تكريم العذراء طابعاً كنسياً شاملاً ورسمياً فكانت أعياد التي بدأت في الشرق ومنه انتقلت الى الغرب والصلوات والأناشيد التي خصّت بها العذراء فتناولت حياتها: قداستها وشفاعتها وموتها. فمريم بوصفها والدة الاله هي الدائمة التوّابة والكلية القداسة لأن القدوس الذي ولد منها أعدّها لان تكون بريئة من كل عيب وخالية من كل دنس. اذا قداستها هي من قداسة ابنها أي من دورها كأم الله المرتكز على ايمانها وطاعتها لله. وتناول التفكير اللاهوتي موت مريم فلم ير من ضيم أن تكون العذراء قد لاقت المصير الذي لاقاه ابنها بالموت غير انه استعبد أن يكون حلّ بها أي فساد وهذا هو أساس العقيدة التي ستحدّد فيما بعد عقيدة انتقال العذراء الى السماء نفساً وجسداً. ونظراً لدور العذراء الفريد، شدّد الآباء القديسون على شفاعة مريم لأن دورها لم ينته بانتهاء حياتها التاريخية على هذه الأرض بل تتابع عملها الوالدي تجاه كل البشر اذ تشفع بهم لدى ابنها.
ثالثاً : القرون الوسطى:
من الواضح أن ظروف الشرق التاريخية قد ساعدت على ترسيخ تكريم العذراء في الكنيسة لكنه لم يقتصر على كنيسة من الكنائس وعلى منطقة من المناطق بل انتشر في الفرب بشكل عجيب منذ القرون الوسطى ففي القرن الثاني عشر بلغت التقوى المريمية أوجها: شيّدت على اسم العذراء الكنائس والمعابد والكاتدرائيات الكبرى، ونشأت الاخويات والتجمعات حاملة لواء مريم وازاد المؤمنون على تلاوة الابانا والسلام الملائكي فأصبح جزءا لا يتجزء من صلاة المؤمن العادية اليومية.
وانتشرت الكتب التقوية والتأملات في حياة العذراء بكل مراحلها: أفراحها وأحزانها ومجدها. وكانت غذاء لتقوى شعبية واسعة ونظرا الى هذا الازدهار في التقوى والمؤلفات صار تشديد على بعض الأفكار المريمية ومنها البراءة من كل دنس وشفاعتها الذئمة ومساهمتها في الفداء وأمومتها الروحية بالنسبة الى البشر أجمعين وخير ممثل لهذا التيار القديس برنردوس.
كان لهذا التيار المريمي اثر بالغ في العبادة اليومية فأرتبط بها ارتباطاً وثيقاً أكثر مما ارتبط بالمدارس اللاهوتية آنئذ. لذلك يشدد على الناحية الانسانية العاطفية في تأمله الاسرار المسيحية وأصبحت مريم فيه رمزاً وتجسيداً لكل ما هو محبب وعاطفي في الديانة المسيحية ولم يخل بالتالي من الناحية النفعية. لذلك تشهد هذه الفترة سيلا من التمثيليات الدينية التي تشدد على الناحية الانسانية وتترك أثراً على العبادة نفسها اذ تجعلها أقرب منا لا من الانسان لتدغدغ أمانية ومصالحة. هذه العبادة لم تبق صافية بل ارتكزت على روحانية وتعاليم اقل رسوخاً ومتانة وقوة مما كانت عليه في السابق، وعابت العبادة المريمية بعض المغالاة.
رابعاً : العصور الحديثة
هذه المغالات وهذا التطرف في أمور الديانة بوجه عام كانت له ردة فعل قوية ظهرت في الاصلاح الذي نادى به جماعة من اللاهوتيين دعوا بالبروتستان أي المحتجّين على هذا التصرف. واتخذ الاصلاحيون من التعاليم الكاثوليكية عن مريم هدفا ومثلا لانتقاداتهم تعاليم الكنيسة كلها رفضين الاجتهدات العقلية وكل ما لم يرد بصريح العبارة في الكتاب المقدس.
تجاه هذا الواقع الجديد الذي نشأ مع البروتستان كان على الكنيسة الكاثوليكية ان تحدد تعاليمها المريمية بمزيد من الوضوح والدقة وأن تبين المبررات اللاهوتية لتكريم العذراء. لذلك اصبحت العقيدة المريمية موضوعاً مستقلاً بذاته ، وفرعاً من فروع اللاهوت. وبرز دور مريم بين المسيح والكنيسة. ولم يخل ما كتب عنها في هذا المجال من التطرف والشوائب فنسب اليها كل ما ينسب الى المسيح والروح القدس.
لكن تعليم الكنيسة الرسمي كان يغربل هذا التيار ولا يحتفظ منه الا بما يتوافق مع معطيات الوحي والتقليد الحيّ. وهذا ما حدا البابا بيوس التاسع على أن يحدد سنة 1854 عقيدة الحبل بلا دنس. وسنة 1950 حدد البابا بيوس الثاني عشر انتقال العذراء الى السماء نفساً وجسداً عقيدة ايمانية. ونلاحظ انه منذ القرن التاسع عشر اتخذ البابوات من حياة العذراء مواضيع لرسائلهم وتعاليمهم الى الكنيسة جمعاء. ونظراً لهذا الموقف الرسمي تتطورات الدراسات عن حياة مريم ودورها في حياة المسيح ورسالته وبرزت ناحية لم تكن قد عولجت سابقاً معالجة كاملة وهي مشاركة العذراء ابنها في الفداء على الصليب، بحبضورها ممعه وقبولها موته حبّاً بالبشر.
خامساً : المجمع الفاتيكاني الثاني
في المجمع الفاتيكاني الثاني دخل التعليم المريمي تيار اللاهوت العقائدي العام فارتكز على أصول الايمان أي الكتاب المقدس والتقليد. وكثيرون من آباء المجمع عارضوا أن تفرد للعذراء دراسة خاصة قائمة بذاتها ومستقلة عن الكنيسة. وبعد الدرس والتشاور الحق البحث عن مريم بالبحث عن الكنيسة. فأتت الدراسة عن مريم متوّجه للدراسة عن الكنيسة وبرزت فيها تلك الأفكار اللاهوتية الأساسية التي تتميّز بها كل دراسة عن مريم. وتركزت هذه الدراسة على الكتاب المقدس وأبرزت دور المسيح الوسيط الأوحد. ومن هذا المنطق برزت عظمة مريم في أمومتها الالهية التي خلقت ربطاً وثيقاً بينها وبين ابنها خاصة في عمل الفداء وهذا ما يبرر لقبها بأم البشر أجمعين.
وتجدر الاشارة الى ان منزلة مريم اعيدت الى مركزها الأول، انها حواء الجديدة، مثال الكنيسة، مفتداة بدم ابنها. في تعليم الكنيسة هذا: تبرز عظمة مريم أم الله وارتباطها الحميم بالبشر وخضوعها بالتالي لمراحل الايمان والرجاء والمحبة التي يدعى المؤمن الى ان يعيشها كما عاشتها العذراء.
سادساً: إجتماع الطوائف المسيحية على تكريم أم الله
يستقي المسيحيون تعاليمهم من معين واحد الكتاب المقدس والتقليد أي حياة الكنيسة التي تحياها تحت قيادة الروح القدس وتوجيه رعايتها عبر الأجيال. ولقد عصفت بالمسيحيين هزّات تاريخية أدّت الى تفرقتهم وانقسامهم. فهنالك انقسام كبير أول ما حصل في القرن الحادي عشر فقسم المسيحيين الى فئتين كبيرتين: الكنيسة الكاثوليكية التي تمحورت حول كرسي بطرس في رومة. والكنيسة الاورتوذكسية ومحورها بيزنطية أو (اسطمبول في تركيا) وفي القرن السادس عشر حدث انفصال آخر ضمن الكنيسة الكاثوليكية أدى الى انسلاخ عدد كبير عنها وهم الذين ندعوهم بالبورتستان. ومع الملك هنري الثامن استقلّت كنيسة انكلترا عن الكنيسة الكاثوليكية. بصورة عامة هناك تيارات ثلاثة تتنازع المسيحيين: الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستان. فما هي مواقفهم من مريم العذراء؟
1ـ الكاثوليك:
موقف الكنيسة الكاثوليكية يتلخّص باتجاهين ويتحكّم به العقل والقلب.
اتجاه العقل هو الاتجاه العقائدي الذي نهل من الكتاب المقدس والمجمامع المسكونية التي بلورت الإيمان المسيحي ضمن مفاهيم واضحة. وهذا الاتجاه انطلق من المجمع الأفسسي والخلقيدوني مروراً بتعليم الباباوات وتوضيح العقيدة المريمية في المجمع الفاتيكاني الثاني والوثائق التعليمية اللاحقة وخاصة من تعاليم الآباء القديسين وتأملاتهم واتجاه القلب هو الخط الذي انطلق مع البشارة الإنجيلية وتلبيتها وازدهر في انواع مختلفة من التكريم لمريم أم الله التي لا يمكن فصلها عن ابنها يسوع.
تجلّت في هذا الخط العاطفة المسيحية تجاه مريم واتخذت تعابيرها أشكالاً عديدة من العبادة والتآليف التي لم تخل أحياناً من المغالاة. وهذ الاتجاه هو الاسهل منالاً والأقرب الى حياة الناس.واليه يعود نشؤ الأناشيد والصلوات والأخويات والتجمعات المريمية. لكن هذا الخط لا يمكن أن يستقلّ عن الخط العقائدي والا تعرض للانحراف والتطرّف خاصة اذا قاد الى فصل العذراء عن تاريخ الخلاص وعن ارتباطها بابنها وبالكنيسة لأن الانسان قلباً فقط انما هو عقل وفكر معاً.
الارثوذكس:
أما موقف الكنيسة الأرثوذكسية فهو نابع أيضاً من تقليد وأصور مشتركة بينهم وبين الكاثوليك لأنهم، قبل الانفصال، كانوا مجمعين على تكريم أم الله، سيّما وان آباء الكنيسة الشرقية هم الذين أغنوا بمؤلفاتهم ومواعظهم الفكر المسيحي عن مريم وساهموا في توضيح العقيدة المريمية.ومن الشرق انطلقت معظم الأعياد المريمية. وفي نطاق هذه الأعياد لا سيّما في سياق السنة الطقسية يظهر تعلّق الشرقيين بمريم وفي أناشيدهم وصلواتهم وعبادتهم تبدو منزلة سامية فوق الخلائق كلها. فلا يخامرهم شك في بتوليتها وأمومتها وقداستها وشفاعتها. ولقد تجلّى تقديرهم لأمّهم السماوية من خلال تلك الايقونات الجميلة التي تزيّن صدور رعاتهم وكنائسهم ومعابدهم وتحمل في طياتها كلّ معاني الطهر والقداسة ودعوة صريحة الى المؤمن ليعيش في كنف العذراء وفي جوّها الروحي. وهل يمكن أن ننسى تلك العاطفة الرقيقة التي ترافق احتفالاتهم بأعياد مريم لا سيما انتقالها الى السماء اذ يستعدون لهذا العيد بالقطاعة والأصوام والصلوات.
غير اننا نلاحظ بعض التردد والاختلاف في مواقفهم بالنسبة للعقائد المريمية التي حددتها الكنيسة الكاثوليكية بعد الانقسام خاصة بالنسبة الى عقيدة الحبل بلا دنس. التي لا يقرون مضمونها اذ يرون فيه انتقاصاً من قيمة العذراء. ففي نظرهم اذا استثنينا العذراء وقلنا انه حبل بها بدون دنس الخطيئة الأصلية فاننا نقلّل من أهمية جوابها للملاك جبرائيل لأنه يفترض ان يكون جواباً حراً لا مجال فيه لأي ضغط وان معنوياً. لكن هذا الالتباس والاختلاف قد يزولان اذا ما قام لاهوتيون من الجانبين بجردة مشتركة لنصوص الآباء القديمة ولبحث سريع في معطيات الكتاب المقدس.
البروتستان:
أما موقف البروتستان فمختلف تماماً ولا يخلو من التناق ض. لأننا اذا عدنا الى كتابات لوتاريوس وكلفينوس ـ وخاصة لوتاريوس ـ فاننا نرى فيها اعترافاً صريحاً بأمومة مريم الالهية وبطهارتها وبراءتها. ويعتبرها كلفينوس مثالاً للايمان والرجاء والمحبة. غير ان هذا الموقف سيتبدّل فيما بعد استناداً الى مبدأ عام انطلق منه البروتستان وهو رفض كل ما لم يذكره الكتاب المقدس صراحة.فكل تحليل بشري يزاد على كلام الله هو من باب الاجتهاد ولا يمكن التسليم به. وهذا يعني أن الكنيسة لا سلطة لها على تفسير الكتاب المقدس وعلى تحديد العقائد.
وانطلاقاً من هذه المبادئ العامة هاجم البروتستان تعليم الكنيسة الكاثوليكية عن مريم العذراء لأن الكنيسة بنظرهم أعطت أهمية كبرى لخليقة فائتمنتها على نعمة الله كلّها وششددوا على شخص المسيح وحده رافضين ان يكون لأي سواه مشاركة في وساطته الفريدة في خلاص البشر ولهذه الأسباب كلها وانسجاماً مع موقفهم طلّقوا كل تعبّد وتكريم لمريم البتول.
غير أن بعض الجماعات منهم التي شرعت في العودة الى جذور المسيحية متعمقة في درس الكتاب المقدس وفي مؤلفات آباه الكنيسة أخذت تعي دور العذراء وتعيد اليها تلك المكانة التي كانت لها قديماً والتي تحق لها بكل جدارة. وهذه علامة من علامات فعل الروح القدس في ذوي الارادة الصالحة الذين يبحثون عن الحقيقة بتجرّد واخلاص.
4ـ إجماع:
إذا استثنينا موقف البروتستان نلاحظ أن جيمع الطوائف المسيحية من أرثوذكسية وكاثوليكية بكل فروعها وتشعّباتها تجمع على تكرم أم الله ولم تفرّط أبداً بهذا التكريم لأنها اعتبرته كنزاً فريداً وجزءاً لا يتجزأ من وديعة الايمان التي تسلمتها جيلاً بعد جيل من المسيح بواسطة الرسل. ولنا في تاريخ هذه الكنائس قديماً وحديثاً أدلة كثيرة على تمسّك الشعب بمحبة مريم وإجلالها والدفاع عنها اذا ما تعرضت للذم والتحقير.
الشعب نفسه في الجيل الخامس ثار على نسطوريوس عندما تجرّأ وشك في أمومته مريم الالهية وسار في تظاهرة دينية مهللاً عندما أعلن الأساقفة المجتمعون في أفسس شجبهم لتعليم نسطورين وابعاده عن كرسي بطريركيته. والشعب المسيحي نفسه هو الذي يتعرّضون لبتولية مريم والحطّ من منزلتها.فكم من مرة يثور عليهم الشعب ثورة عنيفة قولاً وعملاً.
هذا الاجماع هو برهان ساطع على ذوق الايمان المتأصّل في الشعب المؤمن والذي يحفظه من الضلال في أمور جوهرية هي من صلب العقيدة المسيحية. غير ان هذا الاجتماع لا يعني الوحدة في التعبير عن التكريم. لذلك عبّر المسيحيون عن عواطفهم لمريم بتعابير متنوعة بتنوّع طقوسهم وطوائفهم والحضارات التي انتموا اليها. فالكايوليك اللاتين يعبّرون عن محبتهم لمريم بطريقة تختلف عن الأرثوذكس الشرقيين. والموارنة والسريان يعبّرون بطريقة تختلف عن الروم الكاثوليك وهذا التنوع في التعبير دليل عافية وغنى في الشعور والعواطف نحو مريم لأنه اختلاف فيه يمس جوهر العقيدة.
إن اخلاص هذه الطوائف لمريم لم يذهب سدى بل حفظها الايمان المستقيم.وقد يكون هذا الاخلاص حجراً أساسياً من الحجارة التي تشاد بها الحركة المسكونية اليوم التي تهدف الى توحيد المسيحيين. فمريم الذي اجتمع حولها الرسل وهي تصلي معهم بانتظار حلول الروح القدس عليهم، معها يصلي المسيحيون اليوم حتى تحقّق رغبة المسيح في أن يكون جميع المؤمنين به واحداً.
سابعاً: الخلاصة:
” إن هذا المجمع المقدس يجد فرحاً عظيماًوتعزية، في الأخوة المنفصلين الذين يكرمون التكريم الواجب لأم الله المخلّص، لا سيما عند الشرقيين الذين يساهمون في اكرام أم الله الدائمة بتوليتها باندفاع حار ونفس متعبّدة. وليرفع المسيحيون جميعاً الى ام الله وأم البشر توسّلات ملحة كي تشفع الآن أيضاً فيهم الى ابنها في السماء، في شركة القديسين كلّهم.هي التي ارتفعت فوق الملائكة والقديسين، وعضدت بصلواتها الكنيسة في مهدها حتى تجتمع بفرح كلّ عائلات الشعوب سواء تلك التي تتشرّف بحمل الاسم المسيحي أو تلك التي تجهل بعد مخلّصها، في سلام ووفاق في شعب الله الواحد لمجد الثالوث المقدس وعير المنقسم.
صلاة:
يا مريم ، فليكن تكريمك لدى جيع الطوائف التي تحمل اسم ابنك يسوع حافزاً قوياً لجمع شمل المسيحيين ليكونوا رعية واحدة لراعٍ واحد.
ساعديهم على تجاوز كل خصومة وتفرقة ولتكن محبة ابنك السلاح الوحيد يستعملونه في علاقاتهم
آمين.